خصائص النظام المعرفي الإسلامي
مقدمة:
يتميز النظام المعرفي الإسلامي في رؤيته للكون والحياة والإنسان، عن باقي الأنظمة والنماذج المعرفية الأخرى، بجملة من الخصائص والمميزات التي ترشّحه لتشكيل النموذج المعرفي والحضاري البديل، والقادر على انتشال الإنسانية من أزماتها المتنوعة. “فالرؤية القرآنية فضلا عما تتميز به من شمولية، وتوازن، وواقعية ووظيفية، تتميز كذلك، و بشكل معجز، ببنائها النسقي وكليتها التركيبية الجامعة. وهي الكلية التي بمقتضاها، يرتبط عالم الشهادة فيها بعالم الغيب، ويتفاعلان ولا ينفكان بحال، مثلما تتصل في كنفها حقائق الكون، والحياة، والإنسان، بحقيقة الألوهية. وبالتالي فالفصل بين مكونات الرؤية القرآنية ليس إلا فصلاً إجرائياً، لا يلغي كلية ونسقيّة هذه الرؤية”[1].
من المهم أن نبدأ الحديث عن عالمية النظام المعرفي الإسلامي، يما يمكن أن نسميه تأصيلا لمسألة عالمية الفكر الإسلامي بشكل عام، ونموذجه المعرفي بشكل خاص، فالباحث عن قضية عالمية الخطاب القرآني، يجد أمامه آيات قرآنية عديدة في هذا الصدد، منها قوله تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا﴾ سورة الأعراف: 158]، ﴿وَمَا تَسَۡٔلُهُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [سورة يوسف: 104]، ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [سورة الأنبياء: 106]، ﴿تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ لِيَكُونَ لِلۡعَٰلَمِينَ نَذِيرًا﴾ [سورة الفرقان:1].
وقد تحدث محمد عمارة عن عالمية الإسلام واصفا إياها بأنها: “نزعة إنسانية، وتوجه نحو التفاعل بين الحضارات، والتلاقح بين الثقافات، والمقارنة بين الأنساق الفكرية، والتعاون والتساند والتكامل والتعارف بين الأمم والشعوب والدول، ترى العالم “منتدى حضارات”، بينها مساحة كبيرة من “المشترك الإنساني العام”، ولكل منها “هوية ثقافية” تتميز بها، ومصالح وطنية وقومية وحضارية واقتصادية وأمنية لا بد من مراعاتها، في إطار “توازن المصالح” وليس “توازن القوى” بين هذه الأمم والحضارات”[2].
النظام المعرفي بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية:
يمكن القول أن النظام المعرفي الغربي قدر فرض هيمنته وبسط سيطرته على شتى ميادين العلم والمعرفة، معتبرا نفسه النموذج المعرفي الوحيد الصالح والمناسب، لتفسير وتحليل كل الظواهر، لاغياً بذلك كل الأنساق المعرفية المنبثقة من الحضارات الأخرى (الإسلامية بالخصوص)، وذلك بالعمل على تهميشها وتشويه صورتها، ومحاولة تنميطها وفق الرؤية الحضارية الغربية وبالمقابل التمكين لهذه الأخيرة عبر بوابة العولمة.
ولعل ذلك ما أشار إليه سعيد شبار في سياق حديثه عن ضرورة تحرّي الدقة في التمييز بين المفاهيم والمصطلحات “زمن الاستقواء المعرفي والتقني الغربي. الغرب الذي لا يكف عن قذفنا في كل طور من أطوار “نموه” وفي كل مغامرة من مغامراته “التجريبية” بوابل من “الدمغات والأختام الجاهزة” المشبعة بكامل حمولة المركزية الغربية في سياستها التوسعية الاستعمارية، وفي نماذجها الحضارية والمعرفية، وفي سلعها وصورها النمطية الاستهلاكية … وفي كل شيء يحافظ على “الأنا” الغربية في موقع الصدارة والزعامة، وعلى “الآخر” في المحيط والهامش (…) مما يؤدي إلى نفي الخصوصية الثقافية والحضارية تحت وهم الكونية والعولمة التي لا تعكس في الحقيقة إلا الهيمنة والتفرد والاستبداد الذي تمارسه الخصوصية على غيرها لتقوية مركزها ونفوذها”[3].
وفي المقابل فالنظام المعرفي الإسلامي يستمد عالميته من عالمية الخطاب القرآني والبيان النبوي؛ عالمية لا تسعى إلى الهيمنة والتمركز بقدر ما هي عالمية تنوع وتعدد، تعترف بالخصوصيات الثقافية والهوياتية، فهذه العالمية لا تعني في – الرؤية الإسلامية – انفراد الحضارة الإسلامية بالعالم، وإلغاءها “للآخر الحضاري”.. بل إنها تعني التفاعل والتدافع والتسابق مع الآخر، في ضل التأكيد على أن التعددية الحضارية والتنوع الثقافي والاختلاف في الشعوب والأمم والقبائل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ﴾ [سورة الحجرات: 13] ، وفي الألوان والأجناس والأعراق، و الألسنة واللغات – ومن ثم في القوميات ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ﴾[سورة الروم:21]، وفي الشرائع والملل الدينية ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ١١٨ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ﴾ [سورة هود: 118-119] ، وفي المناهج والمذاهب والثقافات والفلسفات والحضارات ﴿ لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ ﴾ [سورة المائدة: 48].إن كل هذا التنوع والتمايز والاختلاف هو القاعدة الطبيعية، والقانون التكويني، والسنة الإلهية التي لا تبديل لها ولا تحويل[4].
ومن هنا فالنظام المعرفي الإسلامي؛ عالمي من حيث شموليته وتكامله وقدرته الاستيعابية لكل الأنساق المعرفية والثقافية المنبثقة من مختلف الملل والنحل، وشتى المذاهب والمشارب. “فالأمة الإسلامية التي تحمل رسالة كونية، والتي حققت عالميتها الإسلامية الأولى، مرشحة أكثر من غيرها للقيام بهذا الدور. ولا يمكن أن يقف أمام العولمة الغربية بخلفياتها الاستبدادية المركزية، إلا العالمية الإسلامية بخلفياتها الدعوية الانفتاحية”[5].
إن سمتي الشمول والتكامل اللتين يتميز بهما النظام المعرفي الإسلامي، مستمدتين أصالة من شمول وتكامل الفكر الإسلامي عموما، فالقرآن الكريم باعتباره مصدراً للمعرفة والحضارة، وإطاراً مرجعياً للنموذج المعرفي الإسلامي، هو الكتاب الشامل الجامع، الخاتم، وخاتميته هذه تقتضي أنه لا كتاب سماوي بعده لترشيد و هداية البشرية في مسيرتها الاستخلافية والعمرانية، مما يستلزم شمولية وتكاملية هذا التوجيه الرباني الخاتم، فالوحي القرآني جاء شاملا في تشريعاته وقيمه لمختلف مجالات الحياة.
التكامل بين عالمي الغيب والشهادة
يتحدث “عبد الحميد أبو سليمان” عن مسألة التكامل بين مصادر المعرفة في الفكر الإسلامي، بما في ذلك العقل والوحي والكون معتبراً أن العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة هي علاقة تكامل و تعاضد ، نافياً في الوقت نفسه أن يكون بينهما أي انفصال أو تعارض، حيث يقول: “ولا مجال في الرؤية الإسلامية لتعارض الوحي والعقل والكون. والسعي والإذعان لما جاء به الوحي من الحق هو الذي يميز بين العقل والعلم الخير، وبين العقل والعلم الفاسد”[6].
فالرؤية المنهجية والمعرفية الإسلامية تقوم على التكامل بين حقائق الوحي ومعارف العقل وخبرات الكون، فالوحي يتولى توضيح طبيعة علاقة الإنسان بالله، وغاية وجود الإنسان في الكون، ودليل حركة الإنسان في الحياة ومصير هذا الإنسان في ما وراء الحياة، والعقل هو موجه الإنسان ودافعه ووسيلته إلى إدراك موقعه وغايته من الحياة ووسيلته في طلب علم الغيب والتلقي عن رسالات الوحي. كما أن بالعقل نميّز بين الوحي الخيّر الصحيح الموثّق، وبين الدّجل والخرافة والكهانة الكاذبة الفاسدة الضّالة، فلا مجال للاستبداد باسم العقل تجاهلا لغايات الوحي، كما أنه لا مجال للحجر والوصاية الغاشمة على العقل المسلم في جهوده الأصيلة للاستنباط والاستقراء والتجريد. وبهذا يتكامل المصدران الوحي والعقل مع الكون لتمكين الإنسان من تحقيق مقاصد الخلق وأداء دور الاستخلاف[7].
وفي السياق نفسه يؤكد باحث آخر على مسألة التكامل والتضافر بين جملة الثنائيات المتقابلة والمتصارعة في نظر البعض، وذلك بقوله:”الحقيقة في التصور الإسلامي لا تفصل الطبيعي عن ما وراء الطبيعي، ولا تفصل النظرية عن التطبيق، والنظر عن العمل والعقل عن السلوك، والدين عن الدنيا، والدنيا عن الآخرة، والإنسان عن الله وعن الكون، والمجرد عن المشخّص، والنسبي عن المطلق، والكل عن الجزء، والعام عن الخاص، والمركز عن الأطراف والبؤرة عن الهامش، فهذه كلها سمات للحقيقة وفق الإبستيمولوجيا البديلة التي يطرحها الفاروقي”[8].
فبهذه الرؤية المنهجية التكاملية استطاع الجيل الأول المتلقي للوحي (الصحابة رضوان الله عليهم)، أن يحققوا ما حققوه من “إنجاز حضاري كان لمنطلقاته القرآنية أعظم الأثر في تجديد الحضارة الإنسانية وارتقاء العقل السنني و الأخلاقي إلى آفاق علمية وإنسانية سامية واسعة، بدأ معها عهد جديد من التعامل مع السنن الكونية في التسخير و الإبداع المادي، وفي الوعي بوجوب التزام القيم والغايات الروحية والأخلاقية في تسخير تلك السنن الكونية و ترشيد مسيرة الإنسان الحضارية”[9].
فإذا كانت مسألة التكامل بين الوحي والكون كمصادر للمعرفة، والعقل والحس كأدوات لها، بهذه الأهمية والمكانة، بحيث تراجعت الأمة الإسلامية ومعها الإنسانية جمعاء، بفعل الانحراف عن هذه المنهجية المعرفية التكاملية، مما أدى إلى فشل ذريع في تحقيق إنسانية الإنسان، رغم التقدم التقني والعلمي بشتى أشكاله وألوانه.
فإن استعادة الدور الحضاري للأمة الوسط، الخيْريّة، الشاهدة بالقسط، منوطٌ ومشروطٌ باستعادتها لتلك المنهجية المعرفية القائمة على التكامل بين عالمي الغيب والشهادة، والتضافر بين الوحي والعقل والكون، ولعل ذلك ما قصده عبد الحميد أبو سليمان بقوله: “إن العقل المسلم لكي يسترد عافيته عليه أن يستعيد رؤيته الإسلامية الكاملة المبنية على التوحيد والوحدانية حيث يتوحد الغيب والشهادة والوحي والعقل والكون، وبذلك تُرشّد مسيرة الإنسان المسلم ويتحقق له وعد الله بالقدرة والنصر”[10].
التكامل بين الإنسان المخلوق والكون المسخر
إذا كان النظام المعرفي الغربي، يقوم على فلسفة الصراع والهيمنة والتنابذ بين الطبيعة والإنسان، باعتبار أن الإنسان هو سيد الكون وقاهره، وبالتالي ما فتئ يسعى إلى فرض هيمنته وبسط سيطرته على عناصر الطبيعة، فإن النظام المعرفي الإسلامي على العكس من ذلك، يقوم على فلسفة التسخير في علاقة الإنسان بالكون والطبيعة، “فالصلة بين الإنسان المخلوق والعالم المادي المسخر له: صلة تفاهم و تساند ومصالحة، لا صلة صراع وتدافع، وسرفٍ وابتذال. فكما أن القرآن يدعو البشرية إلى استثمار خيرات الكون المسخرة له ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُور﴾ [سورة الملك: 16]، فإنه يحذر من الإضرار بالكون والتبذير والإسراف، فيبقى هذا الكون البديع محتفظا بجماله وتوازنه وحسن منظره وكريم عطائه: ﴿وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا٢٦ إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا﴾ [سورة الإسراء: 26-27].[11]
فالعلاقة بين الإنسان وسائر المخلوقات الأخرى، تقوم على أساس التسخير لا التبذير ﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَٰرَ٣٢ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ دَآئِبَيۡنِۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ﴾ [سورة إبراهيم: 34-35]، ﴿أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ﴾ [سورة لقمان: 19]، فالخالق عز وجل “منح العالم للإنسان كنعمة مؤقتة ومجالا لنشاطه، وجعل كل شيء فيه مسخر له، بمعنى أنه تحت تصرف الإنسان يستخدمه لغذائه أو متعته أو راحته. هذا الاستخدام قد يكون مباشرا كما في حالة الغداء والمتعة، وقد يكون غير مباشر كما يحدث حين تُسخّر قوى الطبيعة لتنتج ما يحتاج إليه. وهناك تناسق ذاتي بين مفردات الخليقة والانتفاع الإنساني، فالحاجات الإنسانية جزء من بناء الخليقة، ومفردات الخليقة مصممة بقصد أن تخدم تلك الحاجات”[12].
النظام المعرفي الإسلامي وتجاوز الثنائيات
من المعلوم أن كلا من النظامين المعرفيين؛ النظام المعرفي التراثي الإسلامي، والنظام المعرفي الغربي المعاصر، وقعا في مأزق الثنائيات المتقابلة والمتضادة، فالفكر الإسلامي وقع في ثنائيات مصطنعة، وقفت سداً منيعاً أمام محاولات الاجتهاد والتجديد، مما أخرج الأمة من الشهود الحضاري، والفاعلية العلمية، إلى الانحطاط الحضاري، والجمود الفكري، و ذلك بفعل خلق ثنائيات وهمية عملت على تكبيل العقل المسلم لردح من الزمن، من قبيل (العقل والنقل، الرأي والأثر، الدعوة والدولة، الأصالة والمعاصرة، الدين والدنيا…).
أما النظام المعرفي الغربي، فقد تأسس في أصله على فلسفة قائمة على الصراع والتنابذ بين مجموعة من الثنائيات (المادة والروح، المطلق والنسبي، الأخلاق والعلم، العلم والإيمان، الإنسان والطبيعة…).
و أمام هذه الأزمة الفكرية التي لم يسلم منها الشرق والغرب على حد سواء، حاول رواد الفكر الإسلامي المعاصر، خصوصا مدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، تجاوز هذا المأزق الفكري، من خلال إصدار العديد من الكتابات، وتنظيم جملة من الندوات والمؤتمرات، حول مسألة التكامل المعرفي، والجمع بين القراءتين. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، ما كتبه المفكر السوداني محمد أبو القاسم الحاج حمد عن المنهجية المعرفية القرآنية معتبرا أنها هي : “الناظم الشمولي للكون في وحدة مظاهره المتكاثرة والتي لا تقبل أشكالا جزئية من المعرفة المادية أو الوضعية أو اللاهوتية، ولا تجزئ بين نظرات القوانين بتقييد استخدامها في مجالات من دون أخرى، ما وراء الطبيعة وعلوم الإنسان، وعلوم الطبيعة، وإنما تضع الحركة الكونية كلها. ما يفهم أنه وراء الطبيعة (الغيب)، وما يفهم أنه خاص بالإنسان (علم النفس والاجتماع)، وما يفهم أنه خاص بالطبيعة المادية (علوم الطبيعة التجريبية والتطبيقية). تضع ذلك في كل واحد متحرّك بجدلية الغيب والإنسان والطبيعة وضمن صيرورة خلق وتشيّئ بتطورية غائية”[13].
وعموما فشمولية النظام المعرفي الإسلامي، “تفضي إلى السمة العالمية التي اتسمت بها الثقافة الإسلامية، حيث أنها تنظر إلى الناس بمقياس واحد، ولا تفرق بين قوم وقوم، ولا تفضل أمة على أمة. ولهذا اتسعت رقعتها وشملت شعوبا وأمما، وهضمت حضارات، واستظل بظلها شرق العالم وغربه. فهي ثقافة شمول مثلها هي شمول رحمة، ومثلما نبيّ أمّتها رحمة للعالمين ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ﴾ [سورة الأنبياء: 106].[14]
إن مما يميز النظام المعرفي الإسلامي عن غيره من الأنظمة المعرفية الأخرى هو كونه يتحرك وفق منهج مقاصدي غائي، يرمي إلى تحقيق الاستخلاف وعمارة الأرض، باعتباره المقصد الأسمى من خلق الإنسان، قال تعالى ﴿وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا لَٰعِبِينَ﴾ [سورة الأنبياء: 16]. وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾ [سورة الذاريات: 56].
فقد جعل الله عبادته جل شأنه هي غاية الوجود كله، فالعلم والمعرفة في خدمة العبادة، والعبادة في مفهومها الشمولي العام يدخل ضمنها القيام بمهام الاستخلاف ويدخل ضمنها القيام بمهام العبادة الفردية والقيام بمهمة الإعمار ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا﴾ [سورة هود: 61]. ويقول العرب أن الألف والسين والتاء إذا دخلت على فعل أفاد الطلب، أي طلب منكم أن تكونوا معمّرين لها، فأنتم موجودون فيها لإنشاء عمران أو بناء حضارة (…) فالعبادة ليست قاصرة على ممارسة الشعائر كما تصورها العقل المسلم بعد أزمته الفكرية. وإنما العبادة في مفهومها العام القيّام بالشّعائر بالنسبة للفرد والقيّام بمهمة الخلافة و إعمار الكون وإقامة الحضارة والعدل فيه على أساس قيم الحق التي أرساها الخالق سبحانه وتعالى[15].
ويتفرع عن مقصد الاستخلاف ثلاثة مقاصد عليا حاكمة، يسعى النظام المعرفي الإسلامي إلى تحقيقها، وهي “التوحيد”، “التزكية”، “العمران”.
فالتوحيد بتعبير فتحي حسن ملكاوي هو “رأس الأمر كله في الإسلام، إذ به يتقوم جهد الإنسان في الدنيا وجزاءه في الآخرة. فالتوحيد كان دائما أساس الدين عند الله، ورسالة الله إلى الأنبياء والرسل أجمعين: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيٓ إِلَيۡهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدُونِ﴾ [سورة الأنبياء: 25]، فالنطق بالشهادتين: “لا إله إلا الله، محمد رسول الله” هو باب الدخول في الإسلام، للبدء في بناء “أركان الإسلام الخمسة”، والتحقق بالإسلام: عقيدة وعبادة ونظام حياة، وبمضمون الشهادتين تتحدد سائر “أركان الإيمان الستة”، والترقي بها لإطلاق طاقات الإنسان الفكرية والوجدانية، وتحريرها من قيد المادة، للسمو بها في آفاق التوازن بين المادة والروح، وعتقها من سجن الدنيا لتنطلق في فضاءات الدنيا والآخرة، وتخليصها من أوهام الخرافة إلى يقين العلم . وعند تحقق مقتضيات أركان الإيمان تنعقد أخوة المؤمنين في بناء أمة واحدة، تسهم في ترشيد سعي الإنسان في تحقيق الخلافة والعمران”[16].
أما التزكية فهي “مصطلح ومفهوم قرآني أساسي يتخذ موقعا مهما ضمن منظومة القيم القرآنية؛ فالتزكية موضوعها الإنسان المستخلف، وهو موضوع الإصلاح في الواقع الإنساني. إصلاح الفرد والجماعة والأمة. والإنسان مادة وروح، والتزكية تشمل المادة والروح، وأي حديث عن قضايا الإصلاح لا معنى له إلا إذا تعلق بالإنسان، واستهدف ترقيته في مراتب التزكية، والتزكية هدف العمران ووسيلته، فهي ليست مسألة مشاعر وخلجات وخواطر نفسية، مقصورة على مستوى الإصلاح الفردي، بل تدخل في صميم البناء الاجتماعي والعمران البشري”[17].
العمران: فالعمران يعد من المقاصد العليا الحاكمة التي تشكل البعد الغائي للنظام المعرفي الإسلامي، “فهو (العمران) قيمة تحدد فقه العمل في الحياة الدنيا، ولا سيّما عمل المجتمع، المتعلق بنظم الإدارة والرعاية لشؤون الناس بتيسير سبل الحياة لهم، ورفع الحرج والمشقة عنهم. وكما يتجلى فقه العمران هذا في الجوانب المادية لحياة المجتمع، من أبنية وطرق، وزراعة وصناعة، يتجلى كذلك في الجوانب المعنوية لحياة المجتمع في استتباب الأمن، وإقامة العدل، وممارسة الشورى؛ فيكون شأن الخاصة من الأغنياء والحكام هو السهر على مصالح الناس والرحمة بهم، ويكون شأن العامة من الناس الدعاء للأغنياء والحكام بالخير ومزيد من البركة، والقوة”[18].
ويتحدث أبو القاسم الحاج حمد عن ثلاثيته المعروفة بجدلية الغيب والإنسان والطبيعة، واصفا إياها بالغائية، وذلك في قوله: “فالجدلية في مفهومنا تفكيكا وتركيبا، هي جدلية غائية، محكومة في لحظتها بصيرورة غائية وتطويرية غائية، فليست مثالية وليست مادية، لأنها ترتبط لدينا بمفهوم منهجية التشيّؤ العلمية الوظيفية المرتبطة بمنهجية الخلق، وهي جدلية ذات مراتب، تأليفيّة وتوحيدية وإدماجية تبعا لمراتب العلاقة مع الله (عالم المشيئة – عالم الإرادة – عالم الأمر)، وبهذا نحقق المفهوم الإسلامي للجدلية والصيرورة والتطورية”[19].
ويرى الفاروقي أن طبيعة الكون غائية، أي أنها ذات غاية، تخدم غاية لخالقها، وهي تقوم بذلك عن قصد؛ فالعالم لم يُخلق عبثاً ولا لعباً، كما هو مبين في بعض نصوص القرآن الكريم، وهو ليس عمل صدفة عارضة. كما يزعم الكثير من العلماء والفلاسفة، بحيث يقوم على المصادفة والغائية ثنائية تقابل (…) بمعنى أن الحادث المصادف يتحقق من دون قصد في صورة تشبه القصد، أو الحادث الآلي يتم في شكل قصد وتدبير”[20].
ختاما؛ يمكن القول بأن النظام المعرفي الإسلامي القائم على المنظور التوحيدي للعالم، والذي يتميز بخصائص وسمات؛ العالمية والشمولية والقصدية، تجعل من هذا النظام المعرفي قادرٌ على اقتراح نفسه بديلاً للنموذج المعرفي الغربي القائم على الرؤية الواحدية المادية، والذي بات محل نقد واسع من داخل الذات الغربية نفسها.
الهوامش:
[1]-عبادي، أحمد، القرآن الكريم ورؤية العالم مسارات التفكير والتدبير، الرابطة المحمدية للعلماء، سلسلة ندوات علمية (7)، الرباط، مطبعة المعارف الجديدة، الطبعة الثانية، 1440هـ/ 2019م، ص 14
[2]– عمارة، محمد ، بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية، القاهرة، مكتبة الإمام البخاري للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1430 هـ / 2009 م، ص 11.
[3]– شبار، سعيد، النخبة والأيديولوجيا والحداثة، سلسلة قضايا إسلامية معاصرة، بيروت، لبنان، دار الهادي، الطبعة الأولى، 1426هـ/ 2005م، ص 5-6.
[4]– عمارة، محمد ، بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية، م.س، ص 13-14 (بتصرف).
[5]– شبار، سعيد، مختصر كتاب الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، المعهد العالمي للفكر الإسلامي،هرندن، فيرجينيا، الطبعة الأولى، 1437هـ/ 2016م، ص 108.
[6]– أبو سليمان، عبد الحميد، قضية المنهجية في الفكر الإسلامي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1409 هـ / 1989 م، ص 15.
[7]– المرجع السابق، ص 15-16 (بتصرف).
[8]– بو الشعير، عبد العزيز، النظام المعرفي في الفكرين الإسلامي والغربي، بيروت، منتدى المعارف، ط1، 2014، ص 202.
[9]– أبو سليمان، عبد الحميد، الرؤية الكونية الحضارية القرآنية، ص 187، نقلا عن: فتحي حسن ملكاوي، منهجية التكامل المعرفي، مرجع سابق، ص 45-46.
[10]– أبو سليمان، عبد الحميد، قضية المنهجية في الفكر الإسلامي، مرجع سابق، ص 15.
[11]– عرفان عبد الحميد فتاح، الإطار الفكري العام لتظرية المعرفة في القرآن الكريم، مجلة إسلامية المعرفة، السنة الرابعة، العدد 15، ص 80.
[12]– الفاروقي، إسماعيل راجي ، أسلمة المعرفة المبادئ العامة وخطة العمل، ترجمة: عبد الوارت سعيد، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، دار البحوث العلمية، الطبعة الأولى، 1404هـ/ 1984م، ص 68-69.
[13]– حاج حمد، محمد أبو القاسم ، منهجبة القرآن المعرفية – أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1424هـ/2003م، ص 237-238.
[14]– شلتاغ، عبود، الثقافة الإسلامية بين التغريب والتأصيل، سلسلة قضايا إسلامية معاصرة، دار الهادي، الطبعة الأولى، الطبعة الأولى 1422هـ/ 2001م، ص 184.
[15]– صلاح، إسماعيل، “إسلامية المعرفة”، سلسلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد الخامس، 1419هـ/ 1999م، ص 96-97.
[16]– ملكاوي، فتحي حسن ، منظومة القيم العليا: التوحيد التزكية العمران، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هرندن- فريجينيا- الولايات المتحدة الأمريكية، الطبعة الأولى، 1434هـ/ 2013م، ص 24.
[17]– المرجع السابق، ص 81.
[18]– المرجع السابق، ص 127.
[19]– الحاج حمد، محمد أبو القاسم، منهجية القرآن المعرفية، مرجع سابق، ص 235.
[20]– محمد أمين، العالم، فلسفة المصادفة، القاهرة: دار المعارف، 1969، ص 36. نقلا عن: عبد العزيز بو الشعير، النظام المعرفي في الفكرين الإسلامي والغربي، مرجع سابق، ص 192.
التعليقات