مقالات

 الحرية السياسية عند مونتسكيو

 ارتبط مفهوم “الخطاب السياسي”[1] في العصر الحديث بالتفكير في علاقة السلطة بالحرية؛ إنه تفكير يروم التأصيل للحرية السياسية في إطار سلطة القوانين، على اعتبار أن وظيفة السلطة لا تنحصر في الضبط التام والسيطرة والتوجيه التامين للأفراد، لكنها تسعى إلى ضمان الحريات مع الحرص على استمراريتها. من هذا المنطلق، راح شارل لوي دي سيكوندا مونتسكيو  Charles Louis de Secondat Montesquieu (1689م-1755م) ينتقد مختلف أنظمة الحكم القائمة على الاستبداد والظلم[2] قبل أن يصوغ شكل الحكم العادل في كتابه العمدة “روح القوانين”[3]، مدشنا بذلك نظرية الحكم الحديث القائمة على الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، وإعلانا عن بداية عصر التنوير بفرنسا[4].

لئن كانت الفيزياء النيوتونية قد حققت ثورة في مجال العلوم الدقيقة، فإن النظرية السياسية الجديدة لمونتسكيو تمكنت من إنشاء فيزيقا اجتماعية تمتلك منهجا مماثلا لمناهج العلوم الطبيعية يسمح لها بتفسير الاجتماع الإنساني وآلياته تفسيرا علميا. وتبرز أصالة صاحب “روح القوانين” في دراسته العلمية للقوانين، ذلك أنه نظر إلى القوانين السائدة في بلد ما في علاقتها بعاداته وتقاليده وعقائده الدينية من جهة، وتأثرها بالموقع الجغرافي للبلد ومناخه وإمكاناته الاقتصادية من جهة أخرى.  فما طبيعة العلاقة القائمة بين الحرية السياسية والقوانين عند مونتسكيو؟ وأي نظام سياسي كفيل بتحقيق الحرية للأفراد؟ ولم الحرص على مسألة الفصل بين السلطات؟

 سنتناول[5] هذا الإشكال من خلال بسط القول، بشكل مكثف، في النقط الآتية:

  • نحو تحديد معنى الحرية السياسية؛
  • من دراسة القانون إلى التفكير في روح القوانين؛
  • الوقوف عند أنواع الحكومات، وعلاقتها بالحرية الإنسانية؛
  • مسألة الفصل بين السلط، أو تجاوز مشكلة الشطط في استعمال السلطة.

يرى مونتسكيو أن الحرية تنطوي على العديد من المعاني[6]، وتقترن بأشكال مختلفة من الممارسات السياسية؛ فرأى البعض أنها تنطوي على سهولة عزل من عهدوا إليه بسلطان طاغ، بينما ربطها آخرون بحق انتخاب من يجب عليهم أن يطيعوه، في حين ذهب البعض إلى القول بأنها تفيد حق التسلح والقدرة على ممارسة العنف[7]. لذلك، ارتبطت دلالات مفهوم “الحرية” بالسياقات التي تبلورت فيها؛ فمعنى الحرية في الفكر المعاصر لا يتطابق مع الذي أخذته في الفلسفة الوسيطية، ولا في الفلسفة اليونانية. لكن، ما المقصود بالحرية في المنظور السياسي لمونتسكيو؟

لو شئنا تعريف الحرية في المنظور السياسي لمونتسيكيو بالسلب لقلنا: ليست الحرية السياسية أن يفعل المرء ما يريد بشكل مطلق[8]، بل هي حق فعل جميع ما تبيحه القوانين[9]. أو قل: إن الحرية السياسية متجسدة في أن نحيا تحت قوانين تحمينا من الأذى، وتمنعنا من إلحاق الأذى بالآخرين، وتمكننا بعد ذلك من أن نفعل ما نشاء قدر المستطاع، ونشعر بالثقة في أن سلطة الدولة لن تكون ضدنا ما دمنا سائرين في حدود هذه القوانين. من هذا المنطلق، تصبح الحرية، في الفكر السياسي لمونتسكيو، حقا لكل إنسان طالما كانت في ظل القانون. لكن، عن أي قانون يتحدث مونتسكيو؟

ساد الاعتقاد في الفكر الوسطوي، منذ القديس أوغسطين Saint Augustin (354م-430م) إلى غاية القديس توما الأكويني Thomas d’Aquin(1225م-1274م)، أن القانون وصية  commandement”؛ ومن ثمة، فهو يتطلب إرادة لإصدار الأمر وإرادات للطاعة: إنه يتطلب مشرعا ورعايا[10]. ولما كان القانون بنية واحدة، فقد كان بوسع المرء الحديث عن القانون الإلاهي وعن القوانين الطبيعية والقوانين الوضعية (الإنسانية) بنفس المعنى، ذلك أن الإله Dieu أعطى أوامره للطبيعة قاطبة وللناس أيضا؛ ولم تكن القوانين الأخرى سوى صدى للقانون الأول[11].

هكذا استغرقت فكرة “عدم امتلاك الطبيعة لقوانين منفصلة عن الوصايا” زمنا طويلا للخروج من هذا الإرث[12]، فكيف استطاع مونتسكيو تجاوز هذا التقليد، وإعطاء معنى جديدا للقانون؟

إن طبيعة القوانين عند مونتسكيو يحددها مناخ البلاد وتربته، وكذلك طبيعة الشعب واقتصاده وحكومته ودينه وخلقه وعاداته

يقول مونتسكيو:

             « Les lois, dans la signification la plus étendue, sont les rapports nécessaires qui dérivent de la nature des choses ; et, dans ce sens, tous les êtres ont leurs lois, la divinité a ses lois, le monde matériel a ses lois, les intelligences supérieures à l’homme ont leurs lois, les bêtes ont leurs lois, l’homme a ses lois» [13].

 تكمن أصالة مونتسكيو في القول بأن القوانين علاقات بين قوى متفاعلة يؤثر بعضها في بعض، ويتأثر بعضها ببعض؛ مطورا بذلك الفكرة التي حصلت في العلوم الدقيقة، خصوصا مع إسحاق نيوتنIsaac Newton  (1643م-1727م): استقلال الطبيعة عن فاعل خارجي؛ فكل التفاعلات التي تحدث داخل الطبيعة فهي تحدث داخلها وليس خارجها. هكذا تمكن مونتسكيو من تجاوز كل الفلاسفة الذين أخضعوا القوانين والظواهر التي تسود العالم لقدرية عمياء.

إن طبيعة القوانين عند مونتسكيو يحددها مناخ البلاد وتربته، وكذلك طبيعة الشعب واقتصاده وحكومته ودينه وخلقه وعاداته. وقد راح صاحب “روح القوانين” يبرز كيف أن  للمناخ أثرا على كل جزء في الجسم الإنساني، وما به من عصارات وإفرازات، وأثر ذلك على مزاج الإنسان وأخلاقه وعاداته وطباعه[14]. وحيث إن الحديث عن القوانين لا ينفصل عن أنظمة الحكم السائدة، فإن لوي ألتوسير Louis Althusser (1918م-1990م) خصص الفصل الرابع من كتابه “مونتسكيو، السياسة والتاريخ” للحديث عن أنواع الحكومات كما هي عند مونتسكيو: هناك إذا ثلاثة أنواع من الحكومات، وهي: الجمهورية والملكية والاستبدادية[15].

ترتبط الجمهورية بنظام الحكم الذي يحكم فيه الشعب أو ممثلوه؛ وقد رأى  لوي ألتوسير أن مونتسكيو لا يؤمن بالجمهورية لسبب بسيط، وهو أن عهد الجمهوريات قد انقضى[16] ما دمنا نعيش في عصر الإمبراطوريات المتوسطة والكبيرة, لذلك،  لا يمكن للجمهوريات أن تقوم إلا في الدول الصغيرة[17]. وإذا كانت الجمهوريات لا تحافظ على نفسها إلا بالفضيلة والنقاء العام، مأخوذين بمعناهما الأصلي الذي يعني الاكتفاء بالقليل من أجل الشعور بالسعادة، فإن علة تراجع الأنظمة الجمهورية في أقاصي التاريخ  )اليونان وروما(  كامنة في طبيعة الزمن الذي نحياه: زمن الرفاهية والتجارة، حيث أصبحت الفضيلة صعبة الاحتمال لدرجة الشعور باليأس من نتائجها[18].

بينما ترتبط الملكية، من حيث طبيعتها، بحكم الفرد الأوحد الذي يحكم الدولة بواسطة قوانين ثابتة مستقرة؛ وهي بمبدئها سيادة الشرف[19]. فما المقصود بالشرف هنا؟

لا علاقة للشرف بالحقيقة، ولا بالأخلاق[20] مادامت هناك أولويات في السلطة، وهناك نبلاء أصليون؛ ومن طبيعة الشرف أنه يطالب، ضرورة، بتمييزات وامتيازات. ها نحن أمام معنى جديد للشرف: الشرف هو الصراحة والطاعة والأدب والكرم[21].

أكد مونتسكيو أن العصور القديمة لم تعرف ملكيات حقيقية معتبرا، بذلك، أن الأزمنة الحديثة تعود للملكية الإقطاعية، وأن الملكية الإقطاعية تعود للأزمنة الحديثة  .[22]

بخلاف الجمهورية، وبشكل مماثل للملكية، تشير الاستبدادية إلى نظام الحكم المستتب[23]؛ فينفرد الحاكم وحده بالحكم دون حدود قانونية، ويثبت حكمه بواسطة إرهاب المدنيين بإرادته ونزوات[24]. إنه حكم الأتراك وحكم الفرس واليابان والصين وغالبية بلدان آسيا؛ حكم بلدان شاسعة في ظل مناخ قاتل. إن موقع الأنظمة الاستبدادية يشير إلى أنها تتجاوز حدود الاعتدال[25]. ورغم كون الاستبدادية هي آخر أنواع الحكم، فقد أكد لوي ألتوسير أن هذا النوع هو الأول في تفكير مونتسكيو.

إن الاستبدادية هي فكرة سياسية تماما؛ فكرة الشر المطلق؛ فكرة حدود السياسي نفسها من حيث هو سياسي[26] أو قل: إن الاستبدادية نظام سياسي ليس له “أية بنية” لا سياسية ولا اجتماعية. لذلك، نجد مونتسكيو يكرر، في العديد من المناسبات، أن الاستبدادية “ليس لها قوانين”؛ فالطاغية يوكل سلطته كلها للوزير الأكبر[27]، لكنه لا يتمتع من القانون الساسي سوى بالمظهر. فهل هذا يعني أن الطاغية لا قوة له؟

يقول مونتسكيو:

  Le despote n’a de force que parce qu’il peut l’ôter»[28].

 واضح، إذن، أن الطاغية لا قوة له؛ لذلك فهو يتقوى من خلال سلب الشعب كل ما يحمل من قوة. ومن ثمة، نجد الطاغية حريص على سد كل النوافذ التي يمكن أن تمنح قوة للشعب ) مجال التربية والتعليم على وجه التحديد[29].

صحيح أن الاستبدادية هي أسوأ نظام في الحكم، بل ليس هناك طغيان أفظع من الطغيان الذي يمارس في ظل القوانين وتحت ألوان العدالة[30]؛ وصحيح أن أنظمة الحكم الديموقراطية والملكية تروم ضمان الحرية للأفراد والسهر على المحافظة عليها، لكن هذه الأنظمة السياسية قد يطالها الفساد من جهة الحكام المفسدين. فكيف يمكن خلق نظام سياسي قادر على تحقيق الحرية السياسية؟

يؤكد مونسكيو أن الحرية السياسية لا تتحقق إلا في الأنظمة/الحكومات المعتدلة[31] التي لا تعرف تعسفا في استعمال السلطة بفضل مبدأ فصل السلطات، حيث تميل كل سلطة إلى الحد من الأخرى[32]. لكن، هذا لا يعني الفصل التام بين السلط، وإنما القصد هو تحقيق التمايز بينها في الوظائف ومراقبة كل واحدة منها الأخرى حتى لا تطغى إحداها على الباقي، مع الأخذ بعين الاعتبار، دائما، علو شأن السلطة التشريعية على غيرها. فكيف يمكن تحقيق مطلب الفصل بين السلط بغية إرساء قيمة الحرية السياسية؟

إن الحديث عن مسألة الفصل بين السلط[33] يستدعي، بداية، تحديد هذه السلط. فما هو عددها؟ والمقصود بكل واحدة منها؟

يتعلق الأمر، في نظر مونتسكيو، بثلاث سلط؛ وهي :

  • السلطة التشريعية :la puissance législative

                  « Par la puissance législative, le prince ou le magistrat fait des lois pour un temps ou pour toujours, et corrige ou abroge celles qui sont faites»[34].

 تشير السلطة التشريعية إلى سلطة وضع القوانين؛ إنها السلطة التي يوكل لها بوضع التشريعات لزمن معين أو لكل زمن، لذلك يجب أن تبقى في يد الشعب برمته ضمانا للحرية. وحيث إن دولا كثيرة لا يمكن للشعب أن يشرع مباشرة يصبح واجبا تفويض الأمر إلى هيئة تمثل الشعب، وتشرع تحت رقابته؛ وهؤلاء الممثلون ينتخبون من طرف المواطنين أنفسهم، كما يحق لأبناء الوطن منح أصواتهم لانتخاب الممثل باستثناء من يكونون من انحطاط الحال ما اشتهروا معه بأنهم لا إرادة خاصة لهم مطلقا

  • السلطة التنفيذية:la puissance exécutrice

                  « Par la puissance exécutrice des choses qui dépendent du droit des gens, il fait la paix ou la guerre, envois ou reçoit des ambassades, établit la sûreté, prévient les invasions.» [35].

 يراد بالسلطة التنفيذية سلطة تنفيذ الأوامر العامة (سلطة تنفيذ الأمور الخاضعة لحقوق الناس(؛ إنها السلطة التي تسهر على تقرير السلم أو الحرب من طرف الحاكم مع إرساء السفارات وتوطيد الأمن والحيلولة دون الغارات؛ وتستند إلى شخص الملك، على اعتبار أن الفرد الواحد يكون أكثر قدرة على التصرف من عدة أفراد، ولكن الملك الذي يمسك بيده السلطة التنفيذية يكون مرتبطا بالسلطة التشريعية وتحت رقابتها، فإن ذلك الدستور يعطيه حق الاعتراض ويحفظ له حرمة شخصيته، وفي نفس الوقت يمنح للسلطة التشريعية حق مقاومة السلطة التنفيذية  )الملك(  من خلال عقد دورات إجبارية لمجلس السلطة التشريعية والتصويت على الميزانية ومراقبة تنفيذ القوانين وتوجه اتهام للوزراء إذا لزم الأمر ذلك.

يجوز للسلطة التنفيذية حق وقف مشاريع الهيئة التشريعية، لكن لا يجوز أن يكون للسلطة التشريعية حق وقف السلطة التنفيذية ما دام للتنفيذ حدوده الطبيعية، إلا أنه يتعين لها حق البحث في الوجه الذي ينفذ به ما وضعته من القوانين.

  • السلطة القضائية:la puissance exécutrice

يقول مونتسكيو:

              « Par la puissance exécutrice de celles qui dépendent du droit civil, il punit les crimes, ou juge les différends des particuliers. On appellera cette dernière la puissance de juger»[36] .

 تشير السلطة القضائية إلى سلطة القضاء في الجرائم وفي خصومات الأفراد؛ إنها سلطة تنفيذ الأمور الخاضعة للحقوق المدنية. وقد جعل مونتسكيو من السلطة القضائية سلطة متميزة إلى جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية؛ فهو يعتبر أنه ليس ثمة حرية في الوقت الذي لا يكون لسلطة القضاء مفعولا عن التشريع والتنفيذ. ويرى مونتسكيو أنه لا يجب تفويض سلطة القضاء إلى سينات  [37]Sénat، بل يجب ممارستها من قبل أناس من الشعب، كما هو الحال في أثينا، في زمن معين من السنة على الوجه الذي يأمر به القانون لتأليف محكمة زمانها حسب الضرورة. هكذا تصبح سلطة القضاء المرعبة قاصرة. فكبف يمكن توضيح هذا الأمر؟

إن مونتسكيو إذ يرفع من شأن السلطة القضائية ويشدد في ضبط مرتكزاتها، فهو يحذر من الوقوع في غطرسة سلطة قضائية لا يكون قضاة أمام العيون دائما فيخشى الناس، آنذاك، القضاء لا القضاء.

يجيب مونتسكيو:

             « On n’a point continuellement des juges devant les yeux ; et l’on craint la magistrature et non pas les magistrats»[38].

  إن مونتسكيو إذ يرفع من شأن السلطة القضائية ويشدد في ضبط مرتكزاتها، فهو يحذر من الوقوع في غطرسة سلطة قضائية لا يكون قضاة أمام العيون دائما فيخشى الناس، آنذاك، القضاء لا القضاء. لكن، كيف نجعل من السلطة القضائية أساسا لتحقيق الحرية السياسية؟

              يقول مونتكسو:

               « Il n’y a point encore de liberté si la puissance de juger n’est pas séparée de la puissance législative et de l’exécutrice. Si elle était jointe à la puissance législative ; le pouvoir sur la vie et la liberté des citoyens serait arbitraire ; car le juge serait législateur. Si elle était jointe à la puissance exécutrice ; le juge pourrait avoir la force d’un oppresseur »[39].

 واضح، إذن، أن مونتسكيو يصر على ضرورة فصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية لأن اتحادها بالسلطة التشريعية يعني أن القاضي يصير مشرعا؛ ومن ثمة، يكون الحاكم على الحياة وحرية الأفراد أمرا اعتباطيا؛ أما إذا اتحدت بالسلطة التنفيذية، فإن القاضي يصبح صاحبا لقدرة الباغي/الظالم. وقد حذر مونتسكيو من اجتماع السلطتين التشريعية والتنفيذية في شخص واحد أو في هيئة حاكمة واحدة خشية أن يضع الملك نفسه أو من يقوم مقامه قوانين جائرة لينفذها تنفيذا جائرا[40]. وتزاد خطورة الأمر إذا مارس الحاكم أو الحكومة أو الأشراف أو الشعب السلطات الثلاث لأنه سيضيع كل شي. [41] يرى مونتسكيو أن السلطتين التشريعية والتنفيذية يجب تفويضهما إلى حكام أو إلى هيئات دائمة لأنهما لا تمارسان تجاه أي فرد كان. فإذا كان الواجب يقتضي ألا تكون المحاكم ثابتة وجب أن تكون الأحكام ثابتة [42]،فمتى يسمح للسلطة التشريعية أن تمنح السلطة التنفيذية حق التدخل؟

يؤكد جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau (1712م-1778م) أن السلطة التشريعية إذا اعتقدت أن الخطر يحدق بها عن طريق مؤامرة سرية ضد الدولة أو عن مواطأة مع أعداء أمكنها أن تبيح للسلطة التنفيذية، لوقت جد محدود، أن تعتقل المواطنين المشتبه فيهم والذين لا يخسرون حريتهم لزمن إلا ليحفظوها إلى الأبد.

نافل القول، إن التحليل العميق الذي قام به مونتسكيو للمفاهيم/القضايا الآتية: “الحرية السياسية”،  “روح القوانين”، “أنواع أنظمة الحكم” و”الفصل بين السلط” ساعدنا على تبيان الشروط السياسية الكفيلة بتحقيق السعادة الإنسانية على أرض الواقع بعيدا عن مظاهر الاستبداد والظلم والشطط في استعمال السلطة؛ ويمكن إجمال الخلاصات العامة لهذه الورقة على الشكل الآتي:

  • الحرية السياسية حق لكل إنسان طالما كانت في ظل القانون.
  • فك الارتباط بين العالم السماوي والعالم الأرضي لإعادة تأصيل مفهوم القوانين خاصة في المجال الإنساني، أو تجاوز المرجعية المتعالية والتأسيس لتصور محايث للفعل السياسي.
  • الانتقال من دراسة القوانين إلى البحث في مختلف العلاقات التي يمكن للقوانين أن تأخذها أو أن تكون عليها مع مختلف الأشياء.
  • تعد الاستبدادية أسوأ نظام للحكم لأنها قائمة على الشطط في استعمال السلطة والاعتباطية في ممارستها.
  • إن الاعتدال الحقيقي ليس في الفصل الحازم بين السلطات، ولا الحرص والاحترام الحقوقيين للشرعية، بل إنه يرتبط بتوازن السلطات؛ أي توزيع السلط بين القوى.

 الهوامش:ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] ارتبطت السياسة Politique  (البوليتيا) في المجتمع اليوناني بالتفكير والتساؤل عن أفضل نظام يضمن للكائن الإنساني تحقيق سعادته الأرضية؛ أول لنقل، إنها الجانب المتصل بالتساؤل عن مصادر القوانين لجعل الناس ينضبطون، مع وضع ظاهرة السلطة موضع تساؤل ضمانا للحرية.

[2] خصص مونتسكيو كتابه “الرسائل الفارسية” 1721م لتوجيه نقده اللاذع للعادات الفرنسية السيئة والتعصب الديني السائد في عهد لويس الرابع عشر وخلفه لويس الخامس عشر، كما انتقد نظام الحكم المستبد دون أن ينسب هذا العمل لنفسه. وقد هاجم مسألة تواطؤ رجال الدين مع الأغنياء والأقوياء والحكام في كتابه “اعتبارات وخواطر حول سياسة الرومان” 1716م، وفيه حملة شعواء على نفاق بعض رجال الدين المسيحيين الذين يخدرون الشعب بمواعظهم لكي لا يثوروا على الظلم والاستبداد السائدين في عهد لويس الخامس عشر الذي كان ملكا ظلاميا، يكره فولتير وكل فلاسفة التنوير. لويس دوغراف Louis Desgraves، Montesquieu، .MAZARINE1986 ، بتصرف.

[3] يعد كتاب “روح القوانين”« DE L’ESPRIT DES LOIS »  1748م خلاصة جهد مونتسكيو، وزبدة فكره وتأملاته في السياسة الفرنسية والعالمية؛ وقد مثل هذا المؤلف نقطة فاصلة في عصر التنوير الأوروبي، لذلك أدانته الكنيسة الكاثوليكية عام 1751م. ينقسم العمل إلى واحد وثلاثين كتاب، ويحتوي على فصول قصيرة ذات أسلوب واضح ومتميز.

[4] أشير إلى أن صاحبي “الرسائل الفارسية” (مونتسكيو)، و”رسائل عن الإنجليز” (فولتير) يعبران عن الروح التنويرية بفرنسا في القرن الثامن عشر، دون أن ننسى إعجابهما الكبير بنظام الحكم الإنجليزي.

[5] يرى طه عبد الرحمان في كتابه “اللسان والميزان أو التكوثر العقلي” أن استعمال ضمير الجمع بدل المفرد، فلأن هذا الاستعمال تقليد عربي أصيل في صيغة التكلم، كما أنه يفيد معنى المشاركة والقرب؛ فيكون ضمير الجمع أبلغ في الدلالة على “التأدب” و”التواضع” من صيغة المفرد الدالة على الإعجاب بالنفس، وتعظيم الذات. طه عبد الرحمان، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1998، ص 13

[6] Montesquieu a dit: « Il n’y a point de mot qui ait reçu plus de différentes significations, et qui ait frappé les esprits de tant de manières, que celui de liberté. ».  Montesquieu, de l’esprit des  lois P 177, ISBN- 19 – 144 – 7, 1994, Cérès Edition – 6, AV. A .Azzam – 1002 Tunis.

[7] Ibid,p 177.

[8] Ibid,p 178.

[9] Ibid,p 179.

[10] لوي ألتوسير، مونتسكيو، السياسة والتاريخ، ص 28، ترجمة نادر ذكرى، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2006.

[11] المرجع نفسه، ص. 28

[12] المرجع نفسه، ص. 28

[13] Ibid,p13

[14] نسجل تقاربا كبيرا بين مونتسكيو وعبد الرحمان بن خلدون في مقدمته، وتحديدا الفصل الأول من الكتاب الأول الموسوم ب: “المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر وكثير من أموالهم ثم عن اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم”.

[15] لوي ألتوسير، مونتسكيو، السياسة والتاريخ ،مرجع سابق، ص59.

[16] مرجع سابق، ص59

[17] مرجع سابق، ص 59.

[18] مرجع سابق، ص 59.

[19] مرجع سابق، ص 64.

[20] مرجع سابق، ص 69.

[21] مرجع سابق، ص 69.

[22] مرجع سابق، ص64.

[23] مرجع سابق، ص 74.

[24] يرى ألتوسير في كتابه حول مونتسكيو أن هذا التعريف يظل سطحيا طالما لم نتمثل الحياة “الملموسة” لمثل هذا النظام. فكيف يمكن بالفعل”لرجل واحد” واقعيا أن يجر بنزواته امبراطورية الأراضي الشاسعة والشعوب الخاضعة لسلطانه؟

[25] مرجع سابق، ص 74.

[26] مرجع سابق، ص 74.

[27] مونتسكيو، روح القوانين، الكتاب الثاني، الفصل الخامس، مرجع سابق، ص 75.

[28]   Ibid,p39

[29] إن الناظر في الأنظمة العربية الإسلامية تستوقفه مسألة “الطاغية وهاجس القوة”، ذلك أن العديد    من الحكام  العرب الطغاة كانوا أشد حرص على سلب وسحق كل ما من شأنه أن يمنح قوة للشعب.

[30] مونتسكيو، اعتبارات، الكتاب الرابع عشر، نقلا عن ألتوسير، مرجع سابق، ص 92.

[31] Ibid, p 179.

[32] نشير إلى أن هاجس مونتسكيو هو إرساء نظام سياسي يفيد فرنسا لإصلاح حالها ) خلخلة مسلمات الفكر السياسي الاستبدادي واللاهوتي الذي جسده حكم لويس الرابع عشر(  كما صلح حال انجلترا؛ إنه نظام الملكية المعتدلة، باعتبارها ملكية دستورية تحترم الحريات السياسية للأفراد، وتفصل بين السلطات.

[33] يقول ألتوسير: “من ذا الذي لا يعرف النظرية التي تطالب بأن يجري، في كل حكم، التمييز بحزم بين “التشريعي” و”التنفيذي” و”القضائي”؟ وأن يجري تأمين “استقلالية” كل سلطة للحصول من هذا “الفصل” على محاسن “الاعتدال” و”الأمن” و”الحرية”؟ هذا هو بالفعل سر الكتاب الحادي عشر، الذي وضع مونتسكيو مشروعه بعد الكتب العشرة الأوائل، والذي ألهمته إياه مشاهدة انجلترا حيث اكتشف خلال إقامته فيها بين عامي 1729م-1730م نظاما جديدا بشكل جذري لا يهدف سوى للحرية. ولولا الكتاب الحادي عشر لكان مونتسكيو قدم نظرية كلاسيكية تميز أشكالا سياسية مختلفة واصفا اقتصادها وحركيتها الخاصة”. مرجع سابق، ص 87.

[34] Ibid, p 180.

[35] Ibid,p 180.    

[36] Ibid,p 180.

[37] Ibid,p 181

[38] Ibid,p 182.

[39] Ibid,p 180.

[40] Ibid,p 180.

[41] Ibid,p 181.

[42] Ibid,p 183.

 

 

التعليقات

الوسوم
اظهر المزيد

ذ. عبد الغاني الهيداني

باحث مغربي، يعمل حالياً مفتشاً تربوياً لمادة الفلسفة بجهة مراكش آسفي، وباحث في المجال الفلسفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق