الوجه الحضاري في ثقافة الحج
يختلف مفهوم العبادة في الإسلام عن نظيرتها في باقي الديانات والملل التي عرفتها البشرية، فهذه وإن كانت تعلي من شأن التدين فيها فإنها لا تكاد تتجاوز به حال الأفراد في حياتهم الخاصة، وإن اتسع بعضها ففيه كيان جماعي خاص. وإذا كانت كبرى الحضارات التي عرفتها الإنسانية، كما يقرر كبار مؤرخي وفلاسفة الحضارة، قد انطلقت من عقائد دينية ومبادئ روحية، فإن هذه الأخيرة لم تلبث أن انسحبت إلى الخلف تاركة النموذج الحضاري والثقافي يصوغ قيمه البديلة من خلال زحف الفلسفات المادية التي طغت عليه. فلم تكن لقيمها وأفكارها من شروط القوة الذاتية في البقاء، ما يجعلها قادرة على والصمود والعطاء باستمرار، وتوجيه عناصر الحضارة والثقافة بإمدادها الدائم بالمعنى وبمبررات الوجود، وبالغاية والقصد من الخلق والإيجاد.
أما الامتداد في الأفق الإنساني وعلى الصعيد الكوني، فهذا ما اختصت به رسالة الختم والهيمنة والتصديق المحفوظة بحفظ الله تعالى. حيث تماهت وتوحدت سننها وآياتها في النص وفي الآفاق وفي الأنفس. وكان الإيمان والعمران فيها أمران متلازمان، هما معا متصلين لا منفصلين، من وظائف الإنسان بمقتضى الخلق والاستخلاف والتكليف.
ومن تم كان الوجه الحضاري والثقافي لهذا الدين مؤسسا على عقيدته وعلى منظومة قيمه الإيمانية التي هي عينها منظومة قيمه العمرانية، وكانت الثقافة والحضارة تجليان يعكسان الروح الإيمانية العقدية التي تزودهما على الدوام بالمعنى في الحياة، وتوجه عناصرها بالسعي إصلاحا في الأرض لا إفسادا، وتعارفا مع الشعوب لا تناكرا، وإحسانا في القول والعمل كله.
فعلى خلاف القيم الدينية التي انحسرت في كثير من النماذج الحضارية تبقى قيم هذا الذين متوهجة وإن تراجع وتخلف نموذجها الحضاري، قادرة على توليد النماذج باستمرار، فقوتها ذاتية وهي من كلمات الله التامات ووجودها شرط في هداية هذا الوجود.
بناء على ما تقدم فإن محفل الحج العظيم وقد استوعب معظم شعائر الدين، يجسد هذه المعاني والقيم ويجلي أبعادها الحضارية والثقافية أحسن جلاء، في بعدها الإيماني الروحاني، وفي بعدها الإنساني التعارفي، وفي بعدها الكوني الإحساني. يؤكد في كل عام على أن قيم هذا الدين حية نابضة باستمرار، وممكنة الإنجاز على الدوام. وأنها قادرة على دمج واستيعاب التشكلات الثقافية والحضارية المختلفة لدى الشعوب، وقد نأت ديارهم واختلفت ألسنتهم وألوانهم وأحسابهم وأنسابهم وعاداتهم وتقاليدهم. يقدم في كل سنة نموذجا تطبيقيا حيا للعالم يذكره بالقيم التي يحتاجها في وجوده الديني والثقافي والحضاري وهو أحوج ما يكون إليها اليوم. في السلم والأمن والطمأنينة، وفي التعارف والتسامح والتعاون، وفي الوحدة والأخوة والانسجام.. حيث يحيل كل منسك من مناسكه ركنا كان أو واجبا أو سنة، على دلالات ومعان لا متناهية من التجرد والإخلاص، والصدق والرجاء، والبر والاحسان.. وغيرها من الحوافز والبواعث الضرورية لحسن معاملة الناس لبعضهم ولحسن معاملتهم للطبيعة والكون من حولهم الذي يسبح ويطوف في انسجام معهم. وقد رتب الدين على كل ذلك ثوابا وجزاء ودعا الى المسارعة إليه والتنافس الإيجابي فيه.
إنه تاريخ متصل منذ الإعلان والآذان الأول، لتعاليم دين الإسلام وتجليها الحضاري، تقدم من خلاله الأمة القدوة والأسوة لغيرها من الأمم، بعد اقتدائها وتأسيها برسولها الأكرم صلى الله عليه وسلم الذي كمل به هذا الدين، وتمت معه هذه الكلمات، وانفتح به نسق الهداية والرحمة على الناس أجمعين.
وهذا ما حاولنا بيانه والتفصيل فيه من خلال محاور البحث الأربعة التي كانت كما يلي:
1- تكامل المفهوم والدلالة بين الحج والثقافة والحضارة.
2- الحضارة، والعقيدة الدينية الباعثة.
3- الحج انعكاس حضاري لكونية وإنسانية القيم والأخلاق في الإسلام.
4- مناسك الحج.. نماذج من دلالات القيم الحضارية.
التعليقات