مقالات

التراث وسياق القطيعة بين النسق الفكري المشرقي والنسق الفكري بالمغرب والأندلس

الجابري قارئا ابن رشد

لقراءة البحث كاملا المرجو الضغط هنا 

 

الجابري والتراث: معالم رؤية وعناصر المنهج

تعددت مجهودات المفكرين في السياق العربي بخصوص رصد ودراسة التراث نقدا وتحليلا وتفكيكا إذ “نجد العديد من المهتمين منهم حسن حنفي وعابد الجابري وغيرهم بنو مشاريعهم النقدية والبحثية من هذا المنطلق”[1]، فأسسوا لمقاربات متعددة ومناهج مختلفة بهدف خلخلة الثابت والمترسب من التراث في أفق تجديده وتأسيسا لقراءة جديدة له، وقد اعتمد هؤلاء المهتمين والدارسين لإشكالية التراث على مدخل أساسي بديل إجابة على أزمة الأمة البنيوية وهو المدخل الإبستيمي على مستوى نموذجهم المعرفي في مراجعة التراث.

ومن المعلوم أيضا أن المنشغلين بالدرس النقدي التراثي في الوطن العربي اختلفت خلفيات تقييمهم لأسباب الأزمة، فاختلفت مدخلات تقويمهم تبعا لذلك، نظرا لتباعد خلفياتهم الفكرية و “براديغماتهم” المنهجية، فإذا كان “عبد الله العروي” يدعوا إلى “اجتثاث الفكر السلفي من محيطنا بدعوى أنه أكبر عائق أمام تحقيقنا للحداثة المنشودة”[2] وبالتالي تحقيق ما يسميه بالقطيعة الإبستيمية مع التراث بدعوى أن كل ما هو عتيق وقديم ميت ومميت في ذهننا وسلوكنا ومجتمعنا، لذلك كان لزاما “التحرر من التراث ” جملة وتفصيلا. فإن “محمد عابد الجابري” يخالف أطروحة العروي بقوله: “إن الرفض الميكانيكي للفكر السلفي، ينطوي شئنا أم أبينا، على رفض مماثل للتراث ككل”[3] معتبرا على أن هذا الأخير لا يمكن الانفصال عنه كليا لأننا لا نعيشه فحسب، بل يعيش فينا ويسكننا. كما يرد على دعوى العروي للتحرر من التراث بضرورة “التحرر بالتراث”؛ أي من خلال النظر فيه ومعالجته والوقوف على لحظاته التاريخية المستنيرة من خلال مقاربة التراث الليبيرالي الحداثي الذي يكون طريقا نحو التقدم. بعيدا عن النزعات الميكانيكية الاختزالية والإسقاطية التي تعتبر أنه “بما أننا متأخرين زمنيا عن أوروبا ينبغي البحث في تاريخها عن النهضة التي توازي المرحلة الراهنة من تاريخنا، حتى إذا وجدنا هذه اللحظة، انطلقنا منها، مقتفين أثر الأوربيين متتبعين لمسيرة تاريخهم خطوة خطوة” [4].

إن الجابري ومن خلال مشروعه النقدي لبنية التفكير العربي يؤسس لعملية غربلة التراث وضرورة استرجاع بعض اللحظات التنويرية فيه، خصوصا لحظة المعتزلة ولحظة ابن رشد رغم أن منتقدي الرجل عابوا عليه التوظيف الإيديولوجي لهذه اللحظات ضد المد الأصولي، ومع ذلك يستمر الجدل بين المهتمين بمشكلة التراث والآليات الكفيلة بقراءة واعية علمية لثقل التاريخ، وما خلفه من أزمات بنيوية، خصوصا في الفكر المغربي المعاصر بين أحد أهم أقطابه الجابري والعروي من جهة وطه عبد الرحمان من جهة أخرى.

ينطلق الجابري في نظره للتراث من نقد القراءات السلفية ” وهو ما جسدته دعواه بضرورة “القطيعة مع الفهم التراثي للتراث”[5] القراءة السلفية حسب الجابري لا تهم من ينظر إلى التراث من منظار سلفي رجوعي أو فقهي تأصيلي _يعتمد القياس النحوي-الفقهي الكلامي _ فقط، بل توصيف القراءة السلفية يسري حسب الجابري، على كل قراءة تحيد عن منهج واعي متحرر من ثقل الإسقاطات والتوظيفات وثقل الوصاية والبطريركية السياسية والإيديولوجية، فلكل قراءة متكأ من السلف حسب الجابري. نظرا لكون” الفكر العربي الحديث والمعاصر هو في مجمله فكر لا تاريخي يفتقد إلى الحد الأدنى من الموضوعية، ولذلك كانت قراءته للتراث قراءة سلفية تنزه الماضي وتقدسه وتستمد منه الحلول الجاهزة لمشاكل الحاضر والمستقبل”[6] ,و” يتعلق الأمر هنا بالتيار السلفي في الفكر العربي الحديث والمعاصر، التيار الذي انشغل أكثر من غيره بالتراث و إحيائه واستثماره في إطار قراءة إيديولوجية سافرة”[7] لذلك لم يجد الجابري حرجا في الاستغناء عن ما سبق من القراءات ذات المنزع التراثي التوظيفي الإسقاطي،  مؤسسا لما سماه ب ” القراءة الجديدة للتراث”.

مشروع “القراءة الجديدة” الذي بشر به الجابري امتداد موضوعي لدعواه بضرورة تأسيس عصر تدوين عربي جديد يتغيى في أفقه تحقيق مشروع الاستقلال التاريخي للذات الحضارية التي تبقى مستعصية دون التحلي بالجسارة المعرفية اللازمة لتحرير التراث من إسار وربقة ” البنية المحصلة التي أفرزها “عصر التدوين الأول في حقبه الأخيرة، أي أن نحررها من هيمنة اللفظ وسيادة المفهوم على صعيد اللغة، ومن الأصل والقياس التمثيلي في سبيل الاستدلال الاستنتاجي على صعيد المنطق، والتجويز في سبيل السببية على صعيد الطبيعة”[8] واستئناف الاستقلال التاريخي التام “بالمعاصرة المزدوجة للتراث والاستقلال الكلي عن مقومات ومحصلة بنية عصر التدوين القديم وكذلك عن الاستقدام والتبيئة الفجة والاسقاط المتهافت لمنجزات الحادثة الغربية إن الجابري “يؤمن بالحداثة، لكن بشرط الاستمرار مع التراث بجهة ما، أي بشرط أن تكون الحداثة نهضة ثانية.” “[9] مفهوم استمرار التراث عند الجابري يتأرجح بين ثلاث استعمالات كما ذهب إلى ذلك محمد المصباحي فهو يأخذ منحى إيجابي حين استحضاره في التجربة الأوروبية عندما عملت الأخيرة على بناء نهضتها من منطلق إحياء التراث اليوناني القديم. لكنه يأخذ منزع سلبي عندما يتحول إلى التجربة النهضوية العربية فالاستمرار حين ذاك دون مراعاة الفترات المظلمة من الفترات المتنورة من شأنه أن يستجلب معه الزوائد التاريخية، لكن مفهوم الاستمرار يأخذ في معنى ثالث مفهوم “الانتظام في التراث” والذي يعد في اعتباره “الضمانة الضرورية لأي قفزة نهضوية جديدة”[10].

ولأي مشروع يسعى إلى إقامة الإصلاح على مستوى البنية الذهنية العربية الإسلامية -لأن “لا طائل من وراء إصلاح يأتي بالجديد الحداثي غير المنتظم داخل التراث”[11] – سعى الجابري في مشروعه الفكري إلى قراءة جديدة للترات توسل فيها بمنهج إبستيمي واضح تركز على ضرورة “موضعة التراث” أي النظر إليه بموضوعية وتجرد، مقترحا بذلك مقاربة “الفصل والوصل”، فصل المقروء عن القارئ طلبا للموضوعية ووصل التراث بنا أي جعله “معاصرا لنفسه ومعاصرا لنا في الآن نفسه… وإعادته إلينا في حلة جديدة “[12] من أجل تنقيته من الشوائب والزوائد اللاتاريخية، لذلك يدعي الجابري أن أهم مقوم تنبني عليه قراءته الجديدة هو استدماج البعد التاريخاني في النظر إلى التراث من خلال جعله معاصرا لنفسه وقادرا على معاصرتنا أيضا، كما تعد ألية الفصل بين المضمون الإيديولوجي والإبستيمولوجي من أهم مقومات القراءة الجابرية للتراث “فالتمييز بين المحتوى المعرفي والمضمون الإيديولوجي في الفلسفة الإسلامية ضروري، حتى يمكن لنا الوقوف على ما تزخر به من تنوع وحركة ونستطيع بالتالي ربطها بالمجتمع والتاريخ.”[13] كما أن الفصل بين الإيديولوجي والمعرفي تفرضه حسب الجابري ضرورة منهجية من أجل الحسم التام في جملة إشكالات تتعلق بمدى ارتباط الفلسفة العربية الإسلامية بتاريخها المخصوص، وهنا يتساءل الجابري هل “كانت الفلسفة العربية الإسلامية قراءة لتاريخها الخاص؟ أم كانت قراءات مستقلة الواحدة عن الأخرى لفلسفة أخرى هي الفلسفة اليونانية؟[14] فإذا كانت الفلسفة الإسلامية حسب هذا التصور قائمة على تفاعل تاريخي مع سياق انبعاثها وتطورها فالأكيد أن خلاصات هذه الفلسفة تسعى إلى تقديم إجابات معينة لواقع الذهنية العربية الإسلامية آن ذاك، ولعل أهم إشكال طرح عند استجلاب الفلسفة اليونانية والاشتغال على متونها ومحاولة “ترويضها وتهذيبها” هو جدلية العقلي والنقلي، الإجابة عن هذا التساؤل الذي نحى إلى التوفيق بين طرفي الدين والفلسفة يكتسي طابعا إيديولوجيا بالأساس حسب الجابري، بعيد كل البعد عن الهاجس المعرفي الصرف من هنا وجب حسب رؤية الجابري معالجة التراث معالجة إيديولوجية لأن المشكلة المترتبة عن التوفيق بين النقل والعقل بين الدين والفلسفة “بين ما لله وما لقيصر” مشكلة إيديولوجية بامتياز وهنا يقول الجابري ” فإني لا أتصور كيف يمكن السكوت عن المضمون الإيديولوجي في فلسفة جعلت كل همها توظيف المادة المعرفية التي قدمتها لها الفلسفة اليونانية في أهداف إيديولوجية”[15]

مرافعة الجابري القوية على ضرورة الاستعانة بالقراءة التاريخية الموضوعية والإيديولوجية للتراث، تجد سندها في كون الفكر العربي المعاصر يتجه صوب الماضي من أجل المستقبل يقرأ التراث والماضي طلبا لإجابات وحاجيات الحاضر لأن التراث هو ذلك الهاجس الغريب الذي لا يمكننا التحرر منه جملة وتفصيلا لأننا لا نريد العيش فيه بل هو من يعيش فينا ويسكننا على نحو غريب فقدرنا ليس القطيعة معه بقدر ما يمكن لقراءتنا لتراثنا أن تتوسل بعناصر رؤية تحمل في طياتها التفاعل بين الموضوعية و التاريخانية، وكذلك الإيديولوجية وهو الأمر الذي لا يخفيه الجابري بقوله “أنه يفضل ألف مرة قراءة تراثنا قراءة إيديولوجية تريد أن تكون واعية، من أن نستمر في قراءته قراءة مزيفة مقلوبة[16]

سياقات القطيعة بين النسق النظري الشرقي والنسق الفكري بالغرب الإسلامي

على خلاف الظاهر من توصيف (الفلسفة الإسلامية) أو (الفلسفة في الإسلام) والتي تبين اتصالا نسقيا بين مختلف ما أنتجه الفلاسفة المسلمون شكلا ومضمونا. يحفر الجابري عميقا ليوضح ما خفي ويكشف الانفصال القائم بين ما يسميه النسق النظري المشرقي والمدرسة الفلسفية بالغرب الإسلامي خاصة فلسفة ابن رشد، فبالرغم من أن فلاسفة الإسلام قد عالجوا نفس الموضوعات وتطرقوا لنفس الإشكالات التي فرضتها البنية والمحيط إلا أن التراث الفلسفي والإرث النظري للمسلمين انقسم حسب الجابري إلى “نظامين فكريين” يتمثلان في ” الروح السينوية والروح الرشدية وبكيفية أعم الفكر النظري في المشرق، والفكر النظري في المغرب وأنه داخل الاتصال الظاهري بينهما كان هناك انفصال نرفعه إلى درجة “القطيعة الإبستيمولوجية بين الإثنين، قطيعة تمس في آن واحد: المنهج والمفاهيم والإشكالية”[17] إن المفاصلة حسب الجابري تكمن في المرجعيات والامتدادات والأصول التي يمتح منها كل نسق نظري.

فالأول أي (النسق النظري الشرقي) يستدمج الفلسفة الدينية التي تجد بعضا من مضامينها في مدرسة حران المتأثرة بالأفلاطونية المحدثة والتي لم تستطع التخلص من تبعات الإلحاق والمقارنة، إلحاق الفلسفة بالشريعة ومقارنتها معها، بمعنى أن النسق النظري الشرقي في رأي الجابري لم يستطع التحلي بالشجاعة اللازمة لفصل الفلسفة عن الدين بل ظل الأخير المرجع الأسمى لدى مفكري المشرق سواء الفلاسفة منهم أو المتكلمين الذين اشتغلوا على “محاولة التوفيق بين الأزواج المتنافرة من المفاهيم، أي التوفيق بين العقل والنقل (إشكالية المتكلمين) أو دمج الدين في الفلسفة (إشكالية الفلاسفة الفرابي وابن سينا خاصة)[18]  في حين تأثرت المدرسة الفلسفية التي تخلقت بالمغرب خاصة بالأندلس بحركة إصلاحية يذهب الجابري إلى توصيفها “بالثورة الثقافية” التي تمتد إلى المهدي ابن تومرت مؤسس الدولة الموحدية ” من هنا انصرفت المدرسة الفلسفية بالمغرب إلى البحث عن الأصالة من خلال قراءة جديدة للأصول”[19] بناء على الدعوة التي قامت وتأسست عليها الدولة الموحدية بعد اتهامها لدولة المرابطين بالابتداع والتقليد “ترك التقليد والعودة إلى الأصول”.  من جهة ثانية ساهم التضييق والتشدد الذي انتهجه فقهاء المالكية على بعض الصناعات المعرفية الوافدة من المشرق في “تطور الفكر النظري في الأندلس وبالتحديد مدرسة قرطبة عاصمة الخلافة وتحرره في آن واحد من هيمنة إشكاليات علم الكلام من جهة، ومن عدوى العرفان (الغنوص) من جهة أخرى. وقد كانت نتيجة ذلك أن انصرف الناس إلى الانكباب على دراسة ما كان النظر فيه مباحا…قبل أن يرفع الحصار عن الفلسفة بمعنى: ما بعد الطبيعة”[20]

ويسوق محمد عابد الجابري في سياق مفاصلته بين التراث النظري للمشرق والنسق الفكري بالمغرب أسباب وعوامل ثلاث كان لها بالغ الأثر في التفوق النسبي والأفضلية المعرفية لمدرسة الغرب الإسلامي وهي :

_غياب الموروث القديم : أي انعدام أي امتداد للمعتقدات والبنيات الفكرية السابقة على الإسلام كما هو الأمر في سوريا ومصر والعراق التي ظلت متأثرة ومستدمجة لبنيات ثقافية خلفتها مرحلة ما قبل الإسلام ” لقد قام الفتح الإسلامي بعملية ‘مسح الطاولة’ كما فعل في شمال إفريقية كلها وإذ كان كثير من السكان الأصليين في الأندلس قد حافظوا على دينهم المسيحي أو اليهودي، فإنهم لم ينقلوا من ثقافتهم القديمة إلى الثقافة العربية الإسلامية أي شيء يستحق الذكر”[21]

_استقلال الأندلس والمغرب عن الخلافة العباسية: وقد شكل هذا المعطى حسب الجابري آلية لتدشين صراع سياسي وإيديولوجي كان سابقا على انطلاق النهضة العلمية في الأندلس في عهد عبد الرحمان الناصر الذي دخل في نزاع مع العباسيين والفاطميين في صراع إيديولوجي وفكري تجسد على أرضية ثقافية إذ ظلت “بلدان الغرب الإسلامي تتحرك ثقافيا في دائرة غسلام الفاتحين الأول، إسلام الصحابة والتابعين الذي يعتمد الرواية والنقل أساسا لاكتساب المعرفة سواء في مجال الدين واللغة أو في غيرهما من المجالات” [22] عكس المشرق في عهد العباسيين الذي عرف تعدد المذاهب في الفقه واللغة ومختلف الصناعات المعرفية.

_ سلطة الفقهاء في العلم والتعليم: شكل الأساس الإيديولوجي في بلاد الغرب الإسلامي قطب الرحى في السيطرة على مختلف مناحي الحياة اجتماعية كانت أم ثقافية أم سياسية لذلك كان الانشغال بالمعطى الإيديولوجي والفكري الدي يشكل أساسا للسلطة السياسية انشغالا مركزيا ساهم بدوره في تطور الحياة الفكرية والمعرفية بالغرب الإسلامي والأندلس .

هذه العوامل وغيرها ساهمت حسب صاحب نحن والتراث في تبلور “مدرسة فكرية قرطبية متميزة في الاندلس طبعت بطابعها الفكر العربي الإسلامي في الاندلس والمغرب وجعلته يتميز بدورهن ومن عدة نواح، عن الفكر العربي الإسلامي في المشرق، الشيء الذي يعني تبلور مشروع ثقافي عربي إسلامي في الأندلس والمغرب”[23] هذا المشروع الفكري والذي ينطلق من فلسفة ابن باجة ويجد منتهاه في ما يسميه الجابري “الروح الرشدية”

الجابري قارئا لابن رشد

يأتي اهتمام الجابري بقاضي قرطبة تتمة لسياق القطيعة مع الروح النظرية لفكر المشرق كما سبق الإشارة،

فابن رشد أول من دشن القطيعة ولم يكتف بالقطع مع الروح “الغنوصية السينوية” فقط بل امتدت قطيعته إلى طريقة المعالجة التي اعتمدها فلاسفة ومفكري المشرق مع ثنائيات الكلام والفلسفة والعلم والدين لذلك يذهب الجابري إلى ضرورة استلهام القطيعة الرشدية في قرائتنا للتراث يقول الجابري في إحالة على ابن رشد “فلنأخذ منه-إذا كان لا بد من استعمال هذه الكلمة- هذه القطيعة ولنقطع بدورنا قطيعة تامة ونهائية مع الروح السينوية المشرقية ولنخض معركة حاسمة ضدها”[24]

يعد صاحب “تهافت التهافت” من الفلاسفة الذين خلدوا اسمهم في تاريخ الفكر الإسلامي لموسوعيته واجتهاداته المتنوعة المتراوحة بين الفقه والفلسفة والعلوم، وتكمن قيمة ابن رشد كعقل تنويري في التاريخ الحضاري للأمة بكونه نهج القطع الإبستيمي مع الجدل الدائر بين الفقهاء من جهة والفلاسفة والشراح والمتكلمين من جهة أخرى، “والحق أن عبقرية ابن رشد تكمن في أنه تجاوز ردود الغزالي وأطروحات ابن سينا ليناقش الأساس المنطقي المنهجي الذي اعتمد عليه الشيخ الرئيس (ابن سينا)، نعني بذلك الاستدلال بالشاهد على الغائب”[25].

إن قوة ابن رشد كلحظة تنويرية تتجلى في جسارة معرفية فلسفية في ظل بيئة تتسم بطابع المحافظة والتقليد، فأبو الوليد لم يركب موجة التوفيق أو بالأحرى التلفيق التي دأب عليها فلاسفة الفكر النظري بالمشرق، أمثال ابن سينا والكندي والفارابي، وما يعيبه ابن رشد على تهافت الغزالي وعلى الفلاسفة في نقده المزدوج هو آلية التعامل مع الاستدلال، إذ أن هوان منهج الاستدلال عند المتكلمين والغزالي بل حتى عند الفلاسفة (ابن سينا، الفارابي) حسب ابن رشد يكمن في أداة القياس بين عالمين متناقضين: عالم المطلق وعالم المقيد، أي بين عالم الغيب وعالم الشهادة – وهنا نستحضر وصف ابن رشد لنظرية الفيض عند الفارابي بالخرافات والأقاويل التي تعد أضعف من أقاويل المتكلمين- فقد اعتبر ابن رشد على أن عالم الغيب والوحي والنقل، يشكل نسقا  ثابتا مستقلا بذاته وهو حق لا مراء فيه، بينما عالم العقل والفعل التاريخي الإنساني، يشكل نسقا آخرا له استقلالية ذاتية وأي محاولة للتوفيق دون الأخذ بعين الاعتبار الطابع النسقي المختلف لكل معرفة عن الأخرى ستكون نتيجتها لا محال “تلفيقا” فكريا وعسفا معرفيا ، رغم أن “الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له”[26].

موافقة الحق للحق، حسب أبو الوليد الذي يقصد به الحكمة والشريعة لا تتأتى خارج القدرة التأويلية والقطع مع الفهم الظاهري للنص القرآني، فالتأويل عند ابن رشد معناه “إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز”[27]، وهنا  تأكيد ابن رشد على ضرورة التأويل وأهميته، باعتباره أساسا للتوافق بين الحكمة والشريعة وباعتباره مدخلا منهجيا لتحقيق تكاملية النسق العقلي والنسق النقلي وتكاملية البرهان والبيان “ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان ، وخالفه ظاهر الشرع ، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي … بل نقول أنه ما من منطوق به في الشرع، مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان، إذ اعتبر وتصفحت سائر أجزائه، وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل”[28]. وبخصوص البديل الذي يقترحه ابن رشد في ما يخص جدلية العلاقة بين الدين والفلسفة تتجلى في دعواه إلى “فهم الدين داخل الدين بواسطة معطياته وفهم الفلسفة داخل الفلسفة وبواسطة مقدماتها ومقاصدها، وذلك هو الطريق إلى التجديد في الدين و التجديد في الفلسفة”[29]

وبالعودة إلى ما عابه ابن رشد على منهج الاستدلال لدى مفكري “النسق النظري الشرقي” نستحضر بعضا من القضايا التي أسهب المتكلمون والفلاسفة والفقهاء في الحديث عنها ومحاولة مقاربتها، نورد ردود الشارح الأكبر عليها، حتى نتبين قوة ابن رشد النقدية وطابع النقد الرياضي العقلاني، الذي يميزه في التحليل والتقرير.

ولعل أهم قضية استأثر بها الفكر الشرقي، قضية: “حدوث العالم ” المستندة إلى مفهوم “النهاية واللانهاية” إذ تحدث الأشاعرة عن “الجزء الذي لا يتجزأ” ، ليلاحظ فيلسوف قرطبة “بذكاء رياضي الخطأ الكامن في هذا الاستدلال فيقول: “هذا الغلط إنما دخل عليهم من شبه الكمية المنفصلة، بالكمية المتصلة، فظنوا أن ما يلزم في المنفصلة يلزم في المتصلة “[30].

إن النقد المتعدد الأبعاد لبنية التفكير الشرقية ستجد منتهاها مع ابن رشد في نقده اللاذع الذي سيخصه “لنظرية الفيض” الفرابية والمستوحاة من الفلسفة اليونانية التي ترجع الكثرة إلى الواحد كما ذهب إليها طاليس في نظام “الأرخي”. نقد نظرية “الفيض” لدرجة وصفها بالخرافات والأقاويل بالنسبة لابن رشد سببه اعتمادها بشكل تام على مبدأ قياس الغائب على الشاهد وهو ما سبق أن بيناه.

من خلال ما سبق يتضح أنه من اللازم حسب “الشارح الأكبر” الانطلاق من مقدمة نقدية إبستيمولوجية تشكل قطيعة معرفية مع المفاهيم المؤسسة للفكر النظري الشرقي “والمفاهيم الأساسية التي كانت تتكون منها بنية الفكر النظري، الفلسفي الديني، في المشرق على عهد العباسيين هي كالآتي: الحدوث والقدم، الممكن والواجب، العلم الإلهي والعلم الإنساني، النهاية واللانهاية، الكثرة والوحدة، السببية وحرية الإرادة. ويمكن أن نظيف أيضا الظاهر والباطن، العامة والخاصة”[31].

إن قيمة ابن رشد كفيلسوف وكعقل تنويري تتمثل في نقده المزدوج ل “تهافت الغزالي” من جهة والفلاسفة (ابن سينا والفارابي) من جهة ثانية بخصوص آلية التعامل مع الاستدلال عند المتكلمين والفلاسفة والفقهاء، ويحسب لابن رشد حسب الجابري أنه وعلى خلاف فلاسفة المشرق عمل “على إعادة ترتيب العلاقة بين الدين والفلسفة، وبيان عدم تعارضهما وفي نفس الوقت استقلال كل منهما بمبادئه وأصوله ومنهجه، فإنه يتجاوز المجال الذي ينتمي إليه القول في ‘مطابقة الحكمة للشرع وأمر الشريعة بها’ إلى مجال آخر يمكن التعبير عنه بتصحيح وضع الفلسفة في الفكر العربي والإسلامي بالفصل في النزاع بين الغزالي وابن سينا”[32] .

الهوامش


[1] نصر حامد أبو زيد، التجديد والتحريم والـتأويل، بين المعرفة العملية والخوف من التكفير المركز الثقافي، الطبعة الأولى، الدار البيضاء2010، ص21.

[2]  نفسه، ص 24.

[3] نفسه، ص 26.

[4] نفسه ص 27.

[5] محمد عابد الجابري، نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، المركز الثقافي العربي بيروت 1993، الطبعة 6، ص 19

[6] عبد النبي الحري، طه عبد الرحمن ومحمد عابد الجابري: صراع المشروعين على أرض الحكمة الرشدية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر بيروت 2014 ص 16

[7] نحن و التراث مرجع سابق ص 12

[8] محمد المصباحي: التراث والحداثة في المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري: كتاب جماعي منشورات دار التوحيدي الرباط 2012 ص 75

[9] نفسه ص75

[10]  محمد عابد الجابري :المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية ص 54

[11] محمد عابد الجابري :في نقد الحاجة إلى لإصلاح ص 41-42

[12] طه عبد الرحمن ومحمد عابد الجابري: صراع المشروعين على أرض الحكمة الرشدية: مرجع سابق  ص 19

[13] نحن والتراث مرجع سابق ص 7

[14] نفسه ص 7

[15] نفسه ص 7

[16] نفسه ص 7

[17] محمد عابد الجابري، نحن والتراث مرجع سابق ص  212

[18] نفسه ص 219

[19] نفسه، ص 211

[20] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة: دراسات ومناقشات، مركز الوحدة العربية الطبعة الأولى بيروت 1991 ص 185

[21] المصدر نفسه ص 182

[22] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، مرجع سابق ص 183

[23] المرجع نفسه ص 175

[24] نمحمد عابد الجابري، نحن والتراث مرجع سابق ص 50

[25] نفسه ص 218.

[26] أبو الوليد ابن رشد، فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال، دراسة وتحقيق محمد عمارة، دار المعارف القاهرة، الطبعة الثالثة   1999ص 31.

[27]  نفسه، ص 32

[28] نفسه، ص 33،34.

[29]نمحمد عابد الجابري، نحن والتراث مرجع سابق ص 51

[30]  نفسه  ص 220.

[31] نفسه، ص 218.

[32] محمد عابد الجابري: ابن رشد سيرة وفكر دراسة ونصوص مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى بيروت 1998 ص 135

 

التعليقات

اظهر المزيد

ذ. مصطفى بنزروالة

أستاذ مادة الفلسفة، باحث بمختبر المجتمع المغربي الديناميات والقيم بجامعة شعيب الدكالي، الجديدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *