أليافُ العلاقة الممكنة بين البروتستانية وتأسيس الديموقراطية في أوروبا
تعد البروتستانية حركةً مسيحيةَ، تضمُّ،و بدون مبالغة، آلاف المذاهب. فلأصْلها الذي يعودُ إلى القرن السادس عشر نواةٌ صلبةٌ، مكونةٌ من اللوثرية ( Luthérianisme) ومنَ الكنائس الأخرى التي تعرضت للإصلاح إضافةً إلى الكنيسة المَشيَخية (Presbytérianisme) وَالأنكليكانية، علاوةَ على الحركة المُتزَمّتة ( Puritain Mouvement) ثمَّ الحركة المنونية ( Les mennonites). ينبغي أن نؤكد أيضا أنَّ عددا كبيرا من المجموعات الأخرى ظهر فيما بعد، مثل المعمدانيين (Les baptistes ) أو المنهجيين ( Les méthodistes). أما في يومنا هذا فَيُمْكنُ أن نعُدَّ آخرين مثل البنتكوتية أو الخَمْسِينية ( Le pentecôtisme) و ” شهود يهوه” ( Les témoins de Jéhovah)[1]
إنَّ مَنْهج الانشقاق الذي كانَ قدْ دَشّنَهُ لوثر، أصبحَ في متناولِ كل جماعةٍ دينية ترفضُ اتباعَ أرثدكسيةَ المذهب الذي تنتمي إليه. هكذا يكونُ بإمكانها، إذن، أنْ تُنْشِئَ أو تُؤسس أمتها الخاصة. ربما أن تفكير الانشقاق هذا هوَ ما سَمَحَ بتقدّمِ البروتستانية في مختلفِ مناطقِ العالم. لَقَدْ تطوّرَ المَدُّ البروتستاني بسرعةٍ في أوروبا، ثم أمريكا الشمالية في القرن السابع عشر. أما خلال القرن التاسع عشر، فقد توغل في آسيا وإفريقيا وفي أوقيانوسيا ( L’océanie). وإبانَ القرن العشرين، دخل أمْريكَا اللاتينية. هُنا يمْكنُ لنا أن نطرَحَ سؤالا يهمُّ ما إذا كان لهذا الانشقاق نفسهُ علاقةٌ مع الديموقراطية، أو بشكل أهم أيضا، أن نطرح السؤال عما إذا كانت للبروتستانية روابط بالديموقراطية في أوروبا. ماهي هذه الروابط إذن ؟ سنحاول معالجة هذه الأسئلة من خلال محورين أساسيين وهما السياق التاريخي من جهة والثوابت الثلاثة للبروتستانية منْ جِهَةٍ أخْرى.
أولاً: السِّيَاقُ التَّاريخِي:
- الانشقاق وتحرير العقل
لقد سمح الانشقاق عن الكاثوليكية ب” تحرير العقل الفردي”، بحيثُ إن ظهور البروتستانية في مُنتَصَفِ القرن السادس عشر، قد أسس رابطاً مباشراً بين المؤمنين و الله. فلكيْ يَكُونَ الفَرْدُ مُؤمنا، فليس بالضرورة في حاجةٍ إلى حضور قس يلعبُ دور الوسيط بينه و بين الله كما هو الأمر في الكاثوليكية. إِنَّ أي مسيحي بإمكانه أن يحكمَ بنفسهِ، على الأمورِ المتَعَلّقَةِ بالإيمان والاعتقاد. هكذا عن طريق الانشقاق الذي دشنهُ لوثر، أعطى هذا الأخير دَرْساً لجَميعِ المَسيحيين ليُنصتوا إلى روح المنطق.
بإمكان الفرد أيضا أن ينتقد الجماعةَ التي ينتمي إليها. كيفَ لا و لوثر نفسه، اعتبر أن الكنيسةَ الكاثوليكية التي ينتمي إليها كقس، هي مؤسسةُ فاسدة ؟ وقدْ أكد، على عَكْس ما تُعَلمه الكنيسة، أن الإيمانَ وحدهُ هوَ ما يمكنُ أنْ يُخَلّصَ المُخطئَ، وليسَتْ الأعمال الصالحة. هذه الفكرة هي نقطةٌ أساسية في الديموقراطية والتي تُعَدُّ فيها تَعَدُّدية المواقف قاعدةَ أساسية.
إنَّ إمكانية الانشقاق تَفْرٍضُ نفسها حِينَماَ يتمُّ اقتراحُ مشاريع إصلاحاتٍ، ينبغي أن تنالَ المتابعة التي تليقُ بها. غيرَ أن الجهاز الذي ينتمي إليه المُقترِحُ، والذي قدم إليه هذه المشاريع، ليس في مستوى تفعيلها وتطبيقها، وليسَ لديهِ إرادةً أو نِيّةٌ لهذا التفعيل، حينها يمكنُ للفرْدِ أن يُعْلِنَ عن احتجاجه في مرحلةٍ أولى، فإنْ أُهْمِلَ احتجاجهُ هذا يمكنُ له أَنْ يَنْشقَّ وأنْ يَرْسُمَ مَنْهَجَه أو مساره الجديد، من خلال تأسيس أو تكوين جهازٍ آخر، وَ في الحالةِ هذه نتحَدّثٌ عن أمةٍ جديدة ( Une nouvelle communauté)
هذا الانشقاق هوَ ما نلاحظهُ اليوم منعكسا في المجال السياسي أيضا، من خلال تعددية الأحزاب و إمكانية إفراز بعضها لبعض، دونَ الحديث عن أي تخوين للمنشقين. و كان لوثر قَدْ أعطى النموذج بنفسه. الشيء الذي أهله لأنْ يُنظر إليه كشَخْصٍ بعتثهُ السَّمَاء والعِنايةِ الإلهية. لكن مما ينبغي توضيحه هنا في هذا المقال، هو أن َّ الرُّؤية الإصلاحية كانت موجودةً وَمُعَدّةً منذُ ُقرنٍ. ففي الواقعِ كانَ تَمّةُ أَشْخاصٍ يرونَ أيضا ضرورةَ إصلاحٍ كبيرٍ بإمكانهِ أن يسير إلى حدود انقسام الكنيسةِ الرومانية، إذا ما استمرت هذه الأخيرة في تشبثها بأخطائها. لكنَّ لوثر هو من وضعَ هذه الرؤية على سِكّةِ الفعلِ وَالتَّطْبيق.
- الإصلاح بِغَايَةِ تحقيق العدالة
في الإصلاح نفسهِ، يَكْمُنُ درسُ الديموقراطية. ففي البِدايَةً جاءَ الإصلاحُ من أَجْلِ مقاومةِ اللاعدل “بغايةِ إلقاء الضوء على عالمٍ مَسُودٍ بالجهل والشعوذة والخوف”[2] فإذا كان اليوم، ذلكَ الإصلاح الإنجيلي يبدو بديهيا بمبادئه الثلاث الكُبْرى، فإنّهُ ينبغي بالمقابل أن نعرف بأنه لم يكنْ بديهيا على الإطلاق بالنسبة للبروتستانت الذين عاشوا في تلك الفترة. ففي الواقعِ لَمْ يَكُنْ هناكَ وصولٌ حُر لمعرفة كلام الله ولا إلى الله نفسه بمعنى التواصُل معه بدُونِ وسيطٍ. كانتْ هناكَ هيمنةٌ للكنيسةِ الكاثوليكية التي كانتْ تستغلُّ المواطنين الذينَ يَعيشونَ في أجواء الجهل، الأمية والفقر. لقدْ كانَ يعلمهم بأن الأعمال الصالحة هي التي تقودُ إلى الجَنَّة. وأكثر من ذلك تبيعُ إليهم صكوك الغفران والسماح. وهو دليل على أن الأعمال الصالحة هي تلك التي كانتْ ضمنيا تقودُ إلى إغناء الكنيسة. فاقتناءُ صك الغفران يقودُ إلى الجنة، لأنه في نظرهم عملٌ صالحٌ يذيب الهفوات ويسقِطُ الذنوبَ عنْ كاهل الفرد. إذا كان الأوروبيون المتنورون اليومَ، لا يعانونَ من أي سلطوية دينيةٍ، ولا من كذبِ هذه المبادئ أو الأركان الكنسية، فإنهم مدينونَ بهذه الحياة، على الأقل في جزْءٍ منها إلى المصلحين البروتستانيين الذينَ ضحوا بحياتهم أيضا في أحيانٍ كثيرة بسبب تشبثهم بمحاربةِ البيئة الغير صحية؛ بعيداً عن تطبيقِ المُساواة و العدالة.
- التّرْجَمة: ترجمة الكتابِ المُقَدّسٍ أو الوصولُ الديموقراطي للنص المُقَدّس
باعتبار أن” الكتاب هو خميرة العلمانية، الكتابُ تعَددي…يشجع تكوينَ الرّاْي، فالبروتستانية، من خلال المُبشرين الأوائل ( حتى قبل ظهور كلمة بروتستاني و لا لوثر نفسه)، قد حاولتْ أن تَجْعَلَ فَهمَ الكتاب المُقَدَّس في متناول مختلف الشعوب من خلال تكوينهم لموقفهم الخاص ورؤيتهم الخاصة. فتَرْجَمةُ الكتابِ المُقَدَّس هي أيضا تأويلُ للكتاب المقدس وفقَ قراءاتهم الشخصية.
لكنْ قبل ذكر هؤلاء ا المبشرين الأوائل بالبروتستانية، نذكرُ أيضا بأنَّ لوثر، بنفسهِ، قَدْ تَرْجَمَ الكتابَ المقَدّسَ إلى الألمانية.
بيير فالديس : ( 1140-1217) كانَ يشرفُ على ترْجَمةِ الكتاب المقدس إلى الفرنسية. أسس جماعتهُ (Les vaudois) نسبةً إلى اسمه ( Valdès) على منهج جماعةِ المسيحيين الأوائل كنموذج كانت قد طردتْ من مجمع فيرونا Vérone في سنة 1184 لأنَّ متبعيها أو أعضائها كانوا يخطبونَ و يقدمون المواعظ دونَ أن يكونوا مكلفين بذلك من قبل الجهاز الكنسي. ينبغي أن نقول إن هؤلاء الفالديين قد التحقوا بالبروتستانية حينما تأسست بنيةُ هذه الأخيرة.
د جون وايكليف ( 1329-1384( : ترجم الكتاب المقدس إلى الإنجليزية حينما استقر نهائيا بقية حياته في مدينته الأم، أو كسفورد. نُشيرُ هنا إلى أنه جعل لنفسهِ سمعةً ممتازةً كداعية يرفضُ سلطة البابا. لقد كانَ يؤكدُ دائما بأن الكتاب المقدس هو الذي يستحق أن نحتكم إليه، و أنَّ البابا و المجامع ( Les conciles) لم يكونوا معصومين.
لقدْ كان يستنكرُ أيضا مذهبَ المطهر ( dénonçait la doctrine du purgatoire) ومذهب الحُلول( La transubstantiation). لقد أعْتُبِر أَكْبرَ المبشرين الأوائل بالبروتستانية في انكلترا لمّا استأثرَت البروتستانية بهذا البلد. كتابهُ الخاص بالعهد الجديد و كل كتابه المقدس نُشِرَا بالتتابُعِ في القرْنِ الثامن عشر و القَرْنِ التاسع عشر.
جان هيس : و هو عالم لاهوت مسيحي تشيكي و أستاذ جامعي عاش ما بين سنتي ( 1373و 1414(. لم نتمكنْ، من خلالِ تنقيبنا عن سيرته في إطار بحثنا هذا، من معرفة ما إذا كان قَدْ استطاعَ بدوره ترْجمةَ الكتاب المقدَّس إلى لُغَاتٍ أخْرى ؛إذْ لم نجد ما يؤكد ذلك بشكلٍ قاطعٍ، لَكِنْ تكونتْ لدينا معرفةٌ بأنهُ كَانَ يَمْلِكُ رؤيةً خَاصَّةً بهِ للشَّأنِ الدِّيني المسيحي ؛ إذْ كانَ يطالبُ بإصلاحِ أخلاقي للكهنوت ( Clergé)، فكان يستنكرُ هيمنةَ الكنيسة على عقولِ الناس وسيطرتها على حياتهم العملية والإيمانية أيضا، بوقوفها حاجزا بين الله وعباده، وممارسة الحجْرِ على فكرهم. كما كانَ يُطالب بإعادةَ النَّظر في العبادات أيضاً، خاصةً فيما يَتَعَلَّقُ بطُقوس ما يُسمى بـ”العَشَاء السِّري للسَّيد المَسيح “( le rituel de la cène). وبالنِّسْبَةِ لَهُ فالتَّعْليمُ العَتيقُ أوْ الكْلاَسيكِي كَانَ هَرْطَقَةً وينبغي إعادةُ النظر في طبيعة هذا التعليم، كما أنّه اجتهدَ في وضع حروفٍ مشكولةٍ للتعبير عن الأصوات التي تتميزُ بها اللغات السلافية. دفعَ جان هيس ثمنَ التعبير عن فكره الإصلاحي هذا بروحه، إذْ طُردَ من الكاثوليكية في سنة 1411، ليتمَّ إعدامهُ حرقاً بعد ذلك. فأصبحَ منذُ ذلك العهد يعتبرُ لدى الأوروبيين من شُهداء الفكر، أما التشيكيون الذين اعتبروه بَطلا وطنيا، فلازالو يحْيُون ذكرى إعدامه يوم 06 يوليوز، من خلال اعتبار هذا اليوم يَوْمَ عُطلةٍ كلَّ سنة.
في كتابِهِ ” مسألة الحداثة في الفكر المغربي المعاصر”[3]، يَذْهبُ المفكر المغربي محمد الشيخ إلى اعتبار التّرْجمةِ كفعلٍ للتحديث حينما تحدث عن المفكرين المغاربة الذين ترْجموا المؤلفات الغربية. لأنهم حينها يؤولونها بكيفية تجعلها مناسبةً وملائمةً للبيئة المغربية. إننا على ضوء هذه الفكرة نستطيعُ أن نَجِدَ رابطاً بينَ الديموقراطية وترجمة الكتاب المقدس. أليستِ الترجمةُ إذا دَمقْرَطةً ( Une démocratisation) للنّص المقدس ؟
ثانياً: الأركان الثلاث الأساسية للبروتستانية
تقومُ البروتستانية على ثلاثة أركانٍ أساسية، سنذكرهاَ هنا معَ شرحها قبلَ أنْ نأتي على تأويلِ فَهمنا لها :
–مبدأ ( Sola Scriptura) : و هي عبارةٌ لاتينية تعني أن الكتاب المقدس هو وحده مَا يُشَكّلُ مًصْدَرَ ثقةٍ و سلطة، و ليست المؤسسة الكنسية.
–مبدأ ( Sola Fide) : و هي عبارةٌ لاتينية أيضا مفادها : أن الإيمان بعيسى المسيح وَحْدهُ يُمكنُ أن يسْمَحَ بِتَحْقيق السلام عن طريق ؛
–مبدأ ( Sola gracia) ؛ أي العفو الإلهي أو الغفران الإلهي. و هذا المبدأ من شأنه أن لا يسمح للكنيسة ِ ببيع صكوكِ الغُفران.
لَقدْ تركَ كُلٌّ مِنْ هَذِه المبادئ الثَّلاَثة ( Ces trois principaux dogmes ) انْعِكَاساً في حَقْلِ الديموقراطية، بلْ في تَقَدّمِ هَذهِ الأخيرة.
- ( Sola Scriptura) أو المساواة أمام النص الديني
البروتستانية التي ترفضُ سُلطةَ البابا، لا تعترفُ إلاَّ بسيادةِ الكتابات المُقَدّسة. هذهِ النُّصوص بدورها هي معروفةً على أساس أنها إنْتاجَات رجال ملهمين من قبلِ الروح. بموجب هذا الاعتبار، فهي قابلة لعدم الكمال ( Susceptibles d’imperfection). ومنهُ ضرورةُ عدم تأويلها تأويلا حرفيا. إنه من حق المؤمن أن يبحثَ، عبْرَ حركيتها ( أي الكتابات) عن الروح الذي ينفخُ فيها. فالإيمان البروتستاني والفكر الديني يتغذيان منَ العديد من مصادر المعْرفَة، التي تساعدُ في الفَهْمِ وفي التأويل. ولذلك على المسيحي الذي يقرأ النص أن يتسلح بمعارفَ مختلفة، قد تكونُ علمية أو أدبية أو وَقَدْ تكون معارفَ عارفة أو معارف منهجية بغاية فهم النص و تأويله بدون وساطة رقيب يقطعُ أنفاسهُ.
2.( Sola Fide) أو تقدير قيمة الإنسان
بالنسبة للكنيسة، فالإيمان الذي بيحَ بِهِ للكائنات الإنسانية من قِبَلِ روح القدس هُوَ هِبَةٌ ربَّانية ٌ. يَنْجُمُ عَنْ ذلك أنَّ صياغات هذا الإيمان هي أعمالٌ إنسانية. في هذا الصدد، ليسَ لَهُمْ سُلطةً أخيرةً ومُطْلَقَةً. بالنسبة للبروتستانت، خاصةً كالفان ( Calvin)، فالإيمانُ ليسَ استحقاقاً دينيّا ولاَ جزاءً، ولَكنّهُ هبةٌ، هديّةٌ منَ الله. فمن وجهةِ نظر كالفان، لاَيُمْكِنُ أنْ نُؤْمِنَ إلاَّ إذا كُنّا مُختارين أو مصْطَفينَ منَ الّله، ولاَ يُمْكِنُ أنْ نَكونَ مصطفينَ إلاَّ إذا كُنّا مُخَلَّصِين( Sauvés). هذه المعادلةُ المُقَدّمةُ من قِبَلِ كالفان ( Calvin) قَدْ حَرّرت المؤْمِنَ، الذي أَصْبَحَ يرى أنَّ إيمانهُ غَيْرُ مَشْرُوطٍ بأعمالهِ، بقدر ماهو رهينٌ بما يمكنُ أن نُعبر عنهُ نحنُ ب” رحمة الله”. وليسَ المقصودُ بالتحرير هنا أن يصبحَ الشرُّ مباحا، بلْ أن يصبحَ الشخصُ حرا حرية مسؤولةً أخلاقيّا لا مجالَ فيها لتدخّلِ كنيسةً تطلبُ منه إحصاء أخطائه والاعتراف بها أمامها، فالخالقُ وَحدهُ منْ لهُ الحق في ذلك.
3.( Sola gratia): العَفْوُ الإلهي أو العِلْمانية
إِنَّ هذا المبْدأ هو الذي خَلَقَ الانشقاقَ عَنِ الكنيسةِ الرومانية. فَبِحَسَبِ هذا المبْدأ الذي يُسَمى أيضا مبْدأ (Sacerdoce universel)، لايمكنُ أن تتَواجَدَ بَيْنَ المسيحيين أي اختلافاتٍ في الطبيعة. فالكتابةُ المُقَدّسةُ ليستْ غامضةً بالنسبة للمؤمنين. إِنّها واضحةٌ وقابلةٌ للفهم بالنسبةِ لَهُمْ جَميعا. فكل المسيحيين بهذا المعنى أصبحوا قساوسَةً: لهمْ جمِيعاً الحَقُّ في تَأوِيلِ الإنْجيل بِالكَيْفية الَّتي يَسْمَحُ بها المنطٌقُ والعَقْلُ.
فإذا لمْ يَكُنْ أيُّ رابِطٍ هنا بين هذه النقْطة وبينَ تَطَوّرِ الديموقراطية في أوروبا، فَيَنْبَغي أنْ يَكُونَ إذَنْ. لأَنَّ هذا المَبْدأ َ قَدْ قادَ إلى السَّماَح بتواجُدِ الرُّوح العَقْلانية، وبِتَزكيةِ النقد وإعمال العَقْل بَدَلَ روح الدوغمائية التي نُسَجّلها أو نلاحظها في الأنْظِمةِ المطلقة والتي تَحُدُّ بلْ تمنَعُ المواطنينَ مِنَ المُشَاركَةِ بآرائهم.
إِنَّ العلاقةَ القائمةَ معَ اللّه بِصِفةٍ مُباشِرةٍ، عنْ طَريقِ الصّلاة أو عَنْ طَريقِ التّأمّلِ في الكلام المُقَدّس، ” تَجعلُ تواجُدَ الْقَساوِسةِ أو الوُسَطاء “عَديمَ الفائدة”. بالنسبةِ للبروتستانت، ” فالقَادةُ المعْنيون بقيادةِ التربية الدينيةِ نَحْوَ الحقيقة، لاَ يُمْكِنُ أَنْ يطَمَحوا إلى أي تَفَوّقٍ أو سُموّ مُقَدّسٍ” [4]. وهكذا، فحينما لاَ يَكونُ هُناكَ تَمّةُ تعالٍ أو تراتبيةٍ، فلنْ تَكُونَ هُناكَ أيةُ وصايةٍ إذنْ.
خاتمة :
إِنَّ البروتستانية، التي بشرَ بها البعضُ منذُ القرن الثالث عشر و التي نشأت اسمعا و فعلا خلال القرن السادس عشر، حَيْثُ كانتْ أَغْلَبِيّة أوروبا لاتزالُ دينيةً، حَتّى لاَ نَقُولَ كُلّها، كانتْ حَقِيقَةً ثَوْرَةً على مُستوى فِكْرِ الأورُوبيينَ كَما على مُسْتَوى مُمارساتهم العَمَلِيّة. فالعدالةُ و حُرّيةُ العَقْلِ الرّوحي، و المُسَاواةُ و العِلْمانيّةُ و احْتِرامِ ذَكاءِ الفَرْدِ، وضَمانِ حَقّهِ في التّعبير ؛ كُلُّ خَصائصِ الديموقراطية الغَربية هَذهِ، قَدْ وجدنا لهَا بِشَكْلٍ مِنَ الأَشْكالِ، صُوَراً مُكافِئةً في تاريخ و في أركانِ ومَبَادئِ البروتستانية ؛ الشّيءُ الذي يَسْمَحُ لَنا بِأنْ نَفْتَرِضَ أنَّ البْروتِستانية كانَتْ بشكلٍ ما حَرَكةً مُسَاهِمةً في تَطْوِيرِ الفكر الغربي بالشكل الذي نعرفُ حاليا وبالتالي في إِنجاب الدّيمُوقراطية في البُلْدانِ الغربية بالشكل الذي تَعرفه هَذه البلدان. من المُؤَكّدِ حقا أنَّ هذِهِ المَكانَةِ لاَ تَسْمَحُ لَنا بِأَنْ نَقُولَ أبَداً بِأنَّ البروتستانتية كانَتْ هِيَ المَصْدرَ الوحيدَ للانفتاحِ و التّقَدُّم اللذانِ عرفتهما الدّيموقراطية الغَرْبية أو الأوروبية تَحْدِيداً، إذْ لايُمكنُ أن نتجاهلَ الأدوار الجبارة لكل من ديكارت و سبينوزا ولايبنتز في تحرير العقل من سطو العقلانية اللاهوتية الكنسية، خلال القرن السابع عشر، كما لايُمكنُ أنْ نتجاهلَ فلاسفة عصر الأنوار..
يبقى أنْ نشير في هذه الخاتمةِ أيضا أننا لسنا بصدد تمجيد البروتستانية ولا بصدد مدح الديموقراطية الغربية، فلو كان المقام ُ يتسع لانتقدناها في إطار انتقاد المركزية الغربية. لكننا نحنُ بصدد محاولة رصد العلاقة بين الديموقراطية الغربية والمبادئ البروتستانية، فإنْ كانَ هناك من تَمجيدٍ فهو تمجيدُ العقل والصدق الفكري، الذي يجعلُ صاحبهُ يدافعُ عن فكره بالأساليب العقلانية السليمة والسِّلمية طبعا. ولنا في الاستئناس بما أسلفنا حول المفكرين البروتستانت، الحق في أن نقارنَ الفكر العربي بالفكر الغربي، و نرى الجدوى من قراءة الفكر بالفكر و مُحاورة تاريخ الآخر بعدَ فهمه حيثُ هو. فنحنُ نعيشُ مع الآخر في عالمٍ مشترك و لا مجالَ لتَجاهله. ف”الذي يختلف معي دون أن يبتلعني هو يغنيني ” بحسب عبارة مشهورةٍ ل سان إيكسوبوري.
الهوامش:
[1] [1]-Cours de protestantisme assuré par Madame Bernadette Rigal Cellard, Université Bordeaux 3, année universitaire 2008-2009
[2] Stéphane Gariépy, Le protestantisme et ses valeurs , [disponible] sur www.samizdat.qc.ca/vc/theol/protest.htm[ Vu le 20/11/2015]
[3] محمد الشيخ، مسالة الحداثة في الفكر المغربي المعاصر، ص. 19
[4] Stéphane Gariépy, Le protestantisme et ses valeurs , [disponible] sur www.samizdat.qc.ca/vc/theol/protest.htm
التعليقات