يأس بعض “النخب”
الأصل في “النخبة”، بالوصف الإيجابي وحسب وظيفتها الأصلية باعتبارها طليعة قائدة: التوجيه والتأطير، والتقويم الفكري والسلوكي، والارتقاء بالوعي والفكر والذوق الجمعي، وفتح آفاق وأوراش الابداع في مجالات العلم والفكر والمعرفة والآداب والفنون المختلفة…، وسواء أكانت خلفيتها دينية أو لا دينية يبقى الانضباط لمنهج ومجال العلم أو الفكر أو المعرفة هو المحدد الأساس ومعيار التقويم.
لكن بعض “النخب” للأسف تنتحل وظيفة أخرى، أو تستدرج اليها استدراجا بوعي أو في غفلة منها، لتدور حول ذات القضايا الهامشية التي طرحت ثم طرحت ثم طرحت، وفي كل مرة تطرح فيها تصطدم بالجدار الصلب لهوية المجتمع واختياراته، وقيمه ومبادئه التي تشكل وحدته وانسجامه بل أمنه واستقراره. والمقصود هنا الحديث مرة أخرى عن الاعراض المرضية الشاذة وغير السوية، التي تقع على هامش كل حضارة ومدنية وتحديث، ولم تكن قط في أي نموذج بشري منها سببا من أسبابها. وذلك مثل الشذوذ والمثلية والردة الدينية والتسوية الرقمية بين الذكر والانثى، وحرية التصرف في الجسد… إلخ، بحيث تتحول قضايا العلم والمعرفة والفكر والثقافة، الى مقاولات تجارية للبيع والشراء وتحقيق الأغراض والمكاسب الخاصة.
ليس هذا وحسب، فأخطر من ذلك أن تعمد تلك “النخب”ـ كما هو شأن الندوة المعلن عنها مؤخراـ الى تهريب بعض المفاهيم وتمييع دلالاتها لتبرير تلك الأعراض، وخاصة مفاهيم من قبيل: الحرية، والحقوق، والمساواة، والفرد، والجماعة، والمواطنة، والأقليات…إلخ. حيث يتم التلبيس من خلالها وكأنها شباك صيد للمتهافتين على الأضواء الراغبين في ولوج حلبتها ولو من أبوابها الرديئة.
حين تفعل تلك “النخب” ذلك، تكون قد انقلبت عن وظيفتها الأصل، واستنفذت إمكاناتها في التأطير والتوجيه، وبلغت يأسها وأعلنت افتقارها الى الوعي المشترك، بل ودخلت العدمية والمتاجرة الفكرية والثقافية من أبوابها الواسعة مهما رفعت من شعارات زائفة ومضللة، ليس لها مضمون ولا معنى غير تبرير وخدمة تلك النزعات.
فالنتائج محسومة سلفا، ومقررة ابتداء وانتهاء، ولا غرض من التجمع الذي انتقي له المساندون والمؤيدون من كل حدب وصوب، الا الدعم والحشد وتكثير الأصوات للضغط أكثر من أجل التمكين لتلك الأعراض ولو قاومها المجتمع ورفضها القانون. كيف وصاحبها قد سفه أكثر من مرة اختيارات المغاربة الدينية وهويتهم المجتمعية، واعتبر العلل والأمراض والانحرافات مؤشرات صحة وعافية ومقدمات لولوج عالم النهضة والحداثة!! وخاض ويخوض معارك لتقريرها في المقررات ودعمها بالقانون. وانجر وراءه في ذلك نفر قليلون دون أن يسألوا أنفسهم ولو لمرة: هل فعلا نهض الغرب وتقدم حينما تمكنت منه تلك العلل والأمراض، أم أن عناصر نهضته كانت شيئا آخر لا يرغب هؤلاء، لسبب أو لآخر، في ذكرها أصلا.
فهل يصح أن يقال هي قضايا للحوار والنقاش الفكري، والمدارسة العلمية والموضوعية؟؟ ليتها كانت كذلك، وليتها طرحت كظواهر اجتماعية للنقاش واقتراح الحلول.
للأسف، في الوقت الذي ينبغي أن تتضافر فيه جهود النخب من أجل النهوض بالوعي أو الفكر العربي والإسلامي وتحريره من سائر الارتهانات والاستلابات لذاته أو لغيره، ليمتلك عناصر قوته ويستعيذ عافيته ويستأنف ابداعه ويتفاعل إيجابيا مع غيره، نجد بعضها حريصة على إبقائه في قعر البئر المظلم، بل والنزول به دركات أخرى ما أمكن. وإذا تساءلنا لماذا ذلك؟ لم تسعفنا إلا أجوبة من قبيل: حدة الاستلاب للنموذج الغربي ولتلك الأعراض فيه بالذات مع الاعراض عن مواطن القوة الحقيقية فيه، والحفاظ على مكاسب وامتيازات بالمنطق التجاري أو المقاولاتي الذي ألمحنا اليه.
أثمن قرار “مؤسسة آل سعود” ليس لأنها منعت نشاطا “فكريا”، فما أكثر الأنشطة الفكرية التي تحتضنها من الأطياف المختلفة، بل لأنها حمت رصيدها وسمعتها الفكرية الأكاديمية وهي قبلة للباحثين منذ عقود، تخرجت بسند ودعم منها نخب وأجيال من الباحثين، فكيف تكون شريكا في الإساءة الى هوية المجتمع والدفاع عن الرداءة. كما أثمن قرار انسحاب بعض الرموز المسؤولة من المشاركة للعلة نفسها: كيف نصادم هوية واختيارات الأمة ونشجع الرداءة فيه ونحن مسؤولون ومستأمنون على تنميتها والرقي بها.
إن من عناصر الصحة واليقظة في المجتمع، هذا الوعي الجديد والمتجدد في رفض الغلو والتطرف سواء تدثر بلحاف ديني “ظلامي” أو بلحاف لا ديني “عدمي”، والتكتل من أجل حماية الوحدة والانسجام وعناصر الأمن الاستقرار. بل وأكثر من ذلك حينما يتجاوز هذا الوعي الجمعي سقف “النخبة” نفسها ليكون عنصرا فاعلا في تقويمها بدل أن تكون هي كذلك.
قد يقال ما فائدة كل هذا بخصوص “نشاط مغلق” يخاطب فيه أصحابه أنفسهم؟ قلنا الفائدة ليست في منع النشاط أو السماح به رغم أن النشاط لا يخاطب نفسه بل يريد أن يقرر لغيره، وإنما الفائدة في تنمية هذا الوعي الإيجابي الجمعي، وفي رفع الالتباس عن المفاهيم التي يراد تهريبها، وفي تذكير “النخبة” بمهامها ومسؤوليتها، لأنه إذا كانت هذه “النخبة” ضد الهوية والمجتمع، فعليها أن تطرح على نفسها سؤال: هي نخبة من؟؟،
التعليقات