مقالات

نقد الدين عند نيتشه بين المسيحية والإسلام

نيتشه والتربية المسيحية

ولد نيتشه من قسٍّ بولندي الأصل مُشبعٍ بالعقيدة المسيحية البروتستانتية، ورثها عن آبائه وأجداده القساوسة، هو “كارل لدفج نيتشه”، ومن أمه “فِرَنْسِسكا إيلَر” وهي ألمانية قُحة، فتأثر بأبويه المتدينين في طفولته حتى كان يُلقب بـ”القسيس الصغير” لما ظهر عليه من علامات التدين والذكاء، إضافة إلى صوته الجميل في ترديده لبعض الآيات من الأناجيل حيث كان يُبكي المستمعين له، بلغ تدينه كما اعترف هو بنفسه أنه في صغره كان يشعر وكأنه يرى الله، ويقول بهذا الصدد: “في سن الثانية عشرة رأيت الله في تمام جلاله”، وفي مرحلة دراسته الثانوية (18581864م) ألَّف قصيدة رائعة وجهها إلى “الله المجهول” حيث قال:

” مرة أخرى، وقبل أن أستمر في طريقي..

وأطلق نظراتي إلى الأمام..

أرفع يدي العاريتين..

إليك، فأنت ملجأي وملاذي..

وأنت الذي كرَّست له أعمق أعماق قلبي..

مذابح يُقدَّس عليها اسمك..

لكي يدعوني صوتك..

دائمًا إليك..

وعلى هذه المذابح تتلألأ..

هذه الكلمة: إلى الله المجهول..

إني أريد أن أعرفك أيها المجهول..

أنت يا من نفذت إلى صميم روحي..

ويا من تمر على حياتي مرور العاصفة..

أنت يا من لا يدركك شيء، ومع هذا فأنت قريب مني وذو نسب إليَّ

أريد أن أعرفك وبنفسي أن أعبدك”[1]

نرى من خلال هذه القصيدة حيرة نيتشه وسؤاله العميق عن الله وعن الدين الذي كرس له حياته، فهو من جهة يُظهر يقينه بوجود ربّه وحاجته إليه في الآن وفي المصير، كما يصرح من جهة ثانية بجهله وقصوره عن إدراكه، يناديه منادٍ من أعماقه ببدهية الخالق وقربه من الإنسان، وينتقد بقوة واقع التدين الكهنوتي الذي يجعل من الإنسان كائنا فاجرا وظالما باسم الله والدين؛ فـ”مذابح يُقدَّس عليها اسمك” تجعلنا نسأل ما نسبة هؤلاء القتلة للرب؟ أيرضيه الإفساد باسمه؟

تساؤلات نيتشه لم تجد لها أجوبة مُقنعة في حينها مما أججها وأشعل لهيبها لتحرق الشوق إلى العبادة الوارد في آخر القصيدة، وتفتح آفاق بحثه على المجهول.

نيتشه ونقد المسيحية

قرأ نيتشه في سن الثامنة عشر عن الفيلسوف آرثر فتأثر بفلسفته أيما تأثر حيث وجد عنده أجوبة عن أسئلته المقلقة المحرقة، فانقلب رأسا على عقب، من مسيحي متخلق إلى مُعادٍ للمسيحية وأخلاقها، فما أن انتهى من كتاب أرتور شوبنهاور[2] “العالم كإرادة وفكرة” حتى  قطع مع الماضي وبدأ حياة جديدة بنظرة مناقضة تماما، قال عن كتاب شوبنهاور الآنف: ” مرآة طالعتُ فيها العالم والحياة، بل وطبيعة نفسي مرسومة في جلال مخيف.. إنه ليبدو لي أن شوبنهاور كان يخاطبني أنا، لقد أحسست فيه شعوره المتحمس وخيل إليَّ أني أشهده ماثلًا أمامي في كل سطر كأنما يناديني نداءً صارخا أن أنهض لإنكاره وتفنيده”[3]، حتى أنه عد نفسه خليفة له وصديقا لتلميذه الموسيقار فاجنر.

تخلى نيتشه عن مشاعر صباه الطيبة وتشيطن فجأة، فانتقد الإله في عقيدة الشعب المختار لما رأى العُباد والزُّهاد يختبؤون في الزوايا والمغارات والمفاوز، ويتحدثون باسم الإله ونيابة عنه، فنعت إله الكهنة بأنه إله الأماكن المظلمة والمهجورة، وأنه لا حاجة للإنسان بالاعتقاد في وجود إلهٍ لا يستطيع الانتقام ولا الحرب والتدمير، ويحرض الناس على التخلي عن أنفتهم وقوَّتهم ويشجع فيهم الاستسلام وعدم تحمل مسؤولية الحياة بقوة[4]. كما وجه مضمون كتابه “هكذا تكلّم زرادشت” الذي ألفه في السنة التي توفي فيها كارل ماركس (1883) نحو العقيدة المسيحية يسخر من تدين رجالها، ويدعوهم إلى التخلص من الاعتقاد المسيحي المهين للإنسان وإبداله باعتقاد جديد في الإنسان الأعلى “السوبرمان”، حتى قيل أن هذا الكتاب هو بمثابة إنجيل خامس يضاف إلى الأناجيل الأربعة المشهورة، حيث وجه نقدا جذريا واضحا لعقيدة بولس وتلاميذه، وما أضافه من نصوص وشروح وهوامش.

هذا الفيلسوف المشهور بقصر قامته وطول لسانه هاجم الدين الذي عرفه من رجال الكنيسة بوصفه مخدرا كالخمر، منقلبا عليه وهو أستاذ اللاهوت والفيلولوجيا[5] في الجامعة بمدينتي بون وليبستج على التوالي، هذا الذي قيل عنه أنه “كان مؤدبًا كل الأدب رقيقًا رقة تقرب من رقة النساء، هادئ المزاج، ساكن الضمير، متصل الوقار”[6] نعت المسيحية بـ”اللعنة الكبرى” و”الوصمة الخالدة في جبين البشرية” و”الفساد الأكبر”، واعتبرها المسؤولة عن “الجريمة الكبرى ضدّ الحياة”[7]، فالكلمات “المغالطة مثل: الخطأ والخطيئة وعدم العصمة والهلاك الأبدي وعذاب النار، كان الهدف من ذلك هو جعل المرضى مسالمين قدر الإمكان، دفع المصابين (المتدينين) بالأمراض المزمنة إلى إبادة أنفسهم”[8]، في مقابل ذلك فـ”الإنسان الحر ينبغي أن يعترف بأن الرب قد مات، ومن تم لا يتجه سعيه إليه، وإنما إلى نوع أعلى من الإنسان”[9]،كما وصف ذبيحة الصليب بالوثنية والبربرية، وانتقد أخلاق التدين المسيحي في أغلب كتبه مثل “العلم المرح” و”جينيالوجيا الأخلاق” و”أفول الأصنام” و”عدوّ المسيح” و”ما وراء الخير والشرّ”…ووصفها بأنها “أخلاق العبيد” و”أخلاق القطيع”، والجبناء والمرضى والمنحطين، والتاريخ المقدس هو “تاريخ ملعون” ومقولة (الله، الروح، النفس) هي مجرد علوم طبيعية خيالية، وعالم الآخرة هو عالم الأوهام والأحلام.

أما “موت الإله” في فلسفة نيتشه فهو تعبير غامضٌ تعددت تأويلاته، بين الإلحاد وإنكار الاعتقاد بالآخرة وما فيها من جزاء، ونجد لذلك سندا في أقواله من قبيل “أن نُخرِّف عن عالم آخر غير عالمنا مسألة لا معنى لها”[10]، وإن كان ينم في نظرنا عن عزلته الأنطولوجية وحنقه الشديد على التدين المنحرف الذي عايشه والاعتقاد الخاطئ الذي لُقنه من جهة، وعلى عُمق الفكرة الدينية في ذهنه من جهة ثانية لعدم قدرته على التخلي عن الإله والدين والاعتقاد ولو نظريا، فقد كان دائم الذكر لاسم الإله والدين، باحثا عن اطمئنان روحي وفكري يزيل كآبته وضنكه، وقبيل جنونه كتب لأخته متألـمًا يقول: “أوَّاه! لم يبقَ لي صديق ولا من إله”[11]، وإن ظل في أواخر حياته ونتيجة إحساسه بتعاليه يقول عن نفسه أحيانا أنه هو الرب الجديد أو المصلوب أو غير ذلك.

لما سئل عن عبارته “موت الإله” أجاب بأن الإله مات ليطمئن الأشرار الذي يخافون من عقابه. وفي اطمئنان الأشرار وكأنه يومئ إلى موت الخير وموت الإنسان نفسه مع موت الإله، يقول ميشال فوكو: “وصل نيتشه إلى النقطة التي عندها يمتلك الإنسان والله بعضهما، حيث يكون موت الأول مرادفا لموت الثاني، وحيث إن الوعد بالإنسان الأسمى يعني، أولا وقبل كل شيء حتمية موت الإنسان الوشيك”[12]، بل حتى في سنوات جنونه كان يرتاد الكنائس ويردد الأناشيد ويبكي فقد الإله[13] وكأنه يبحث عن الخلاص في غير المسيحية، أثناء رحلة جنونه خلال اثني عشرة سنة لم يتسامح مع رجال الدين، وإلى الرمق الأخير حيث طلب من أخته أن تمنع القساوسة من حضور وفاته، قائلا لها: “لا تسمحي لقسيس أو غيره أن ينطق الأباطيل بجانب قبري في وقت لا أستطيع أن أدافع فيه عن نفسي. إنني أريد أن أهبط إلى قبري وثنيا شريفا”[14]، إلى أن مات مجنونا في غشت 1900.

  • نيتشه “عدو المسيح”

يظهر نيتشه عداوته للتصور اللاهوتي المسيحي بشكل أكثر في كتابه “عدو المسيح”[15]، ويستأنف نقده بشدة للعقيدة المسيحية من أربعة أوجه في نظرنا:

  • نقد أصول العقيدة: ينتقد أصول العقيدة المسيحية[16] من قبيل: “الله” و”الدين” و”الحياة”، فالله في المسيحية –حسب نيتشه- إله المرضى والفاشلين والكهنة، و”الكاهن يسيء استعمال اسم الله ويدنسه، يدعو مملكة الله حالة الأشياء حيث يقرر هو قيمتها، وإرادة الله تلك الوسائل التي بها يحصل ويحتفظ بتلك الحالة”[17]، أي أن الكاهن يقرن إرادة الله بإرادته ومغفرة الله بطاعته (أي بطاعة الكاهن)، والدين هو الخضوع والرهبنة والتملق والكذب والتوهم، والتصديق بلا عقل بقصة “الله معلق على الصليب”! والحياة هي السطو على الغير والقابلية للاستضعاف باسم العقيدة. يقول نيتشه “في مفهوم الله تُعلن وتُداع العداوة للحياة وللطبيعة”[18]، حتى اعتبر أن “البوذية أفضل مائة مرة من المسيحية”[19].
  • نقد القيم الأخلاقية المسيحية: يعيب على المسيحية محاربتها للقيم الإنسانية النبيلة وتنقيصها من قيمة الحياة، وإباحتها الكذب والقتل والتدمير، يقول بهذا الصدد: “لقد انحازت المسيحية إلى كل ضعيفٍ ومنحط وفاشل، وشكلت من مناهضتها لغرائز التشبث بالحياة المفعمة مثالا”[20]، وسترت غرائزها الفجة بإيمان شكلي تُقدمه مِثل فيتو ضد العلم.
  • نقد بعدها عن الواقع: ينتقدها أيضا من حيث بُعدها عن الواقع الذي يعيشه الإنسان ويطمح إليه، بل يكره كُرهها الغريزي للواقع بقوله “لا الأخلاق ولا الدين في المسيحية يلامسان الواقع في أية نقطة”[21].
  • نقد تبعيتها لليهودية: فالمسيحية مُشبعة في نظر نيتشه بالعقيدة اليهودية، حيث يعتبرها نتيجتها الحتمية ومنطقها الهياب[22]، مستدلا بما ورد في إنجيل يوحنا من أن “الخلاص يأتي من اليهود”[23]، وبأحداث التاريخ اليهودي وأخلاق اليهود المنحطة حتى استنتج أن “اليهود هم الشعب الأكثر شؤما في التاريخ”[24]، فقد قلبوا القيم لذواتهم وأداروها لصالحهم.
  • نيتشه واحترام الإسلام وحضارته

رغم انتقاد نيتشه للدين واستوائه مُلحدا وثوريا كبيرا في نظر الكثير ممن درسوا تراثه الفلسفي، فقد قدم موقفا من الإسلام مخالفا لموقفه من المسيحية واليهودية. فكيف تعرف على الإسلام؟ وكيف نظر إلى حضارة المسلمين؟

في الغالب لم يطلع نيتشه على الإسلام من مصادره الأصلية (القرآن والنبوة) وإنما بواسطة عن طريق يوليوس فلهاوزن (J. WELLHAUSEN ) صاحب “الدولة العربية” الذي أرخ للفترة بين البعثة النبوية إلى نهاية الدولة الأموية، ومن خلال اطلاعه على حضارة الأندلس في الغرب الإسلامي، وتاريخ المسلمين عموما وموقفهم من بعض القضايا الإنسانية، باعتباره كان مهتما بتاريخ الأفكار وجينيالوجيا المفاهيم. لكنه قدم موقفا أوضح من فريديرك هيجل الذي توقف الدين عنده مع المسيحية، وأقرب إلى الموضوعية من مواطنه أُسفلد شبتغلر[25] الذي اتهم الإسلام من غير دراسته.

والكتابات التي تناولت موقف نيتشه من الإسلام قليلة جدا على خلاف تلك التي خاضت في موضوع نقده للعقيدة المسيحية والأخلاق المسيحية، ومن الكتب الحديثة في الموضوع نجد كتاب “نيتشه والإسلام”[26] للبريطاني “روى جاكسون” وهو محاضر في الفلسفة والدين، بيَّن فيه جزئيا كيف كان نيتشه متسامحا تجاه التراث الإسلامي، ومنتقدا حاقدا على التراث المسيحي؟ كما حاول إبراز مركزية الدين في موقف نيتشه من قضايا مثل الفلسفة الأخلاقية والسياسية؟ وكيف يمكن لرؤية نيتشه المميزة وميتودولوجيته أن تساعدنا على فهم الإسلام اليوم؟ إلا أن العنوان في نظري كان مضلِّلا لأنه لم يكن وفيا لموضوعه.

على خلاف ذلك يُثني نيتشه على الحضارة الإسلامية العربية القديمة في غير ما موضع من كتبه، من غير أن يفيد ذلك تفصيله القول في مزايا الإسلام العقدية أو التشريعية أو غير ذلك، فهو يرفض الدين الكهنوتي في جميع صوره، ويرفض فيه ما يسميه بـ”الكذبة المقدسة” الشائعة في جميع الأديان. مع استثناء قد لا يصدقه قراء نيتشه وهو ما ورد في كتاب “عدو المسيح” من تمجيد للإسلام بقوله: “الإسلام عند احتقاره المسيحية يمتلك ألف مرة الحق بأن يفعل ذلك: إن الإسلام يتطلب الرجال”[27]، فماذا يعني نيتشه بالرجال؟ وبحاجة الإسلام إلى رجال؟ وأن الإسلام كان له رجال؟

عندما ينعت نيتشه قادة الحركة المسيحية بـ”اللارجال”، نفهم أنه يقصد برجال الإسلام قادته، فكما أن المسيحية انحرفت مع رجال الدين والكهنة وعلى رأسهم [28]بولس، ارتقى الإسلام مع قادته العظام (الرجال)، وهنا تبرز فطنة نيتشه في تمييزه بين “مُعتقدين”، مُعتقد خانه رجاله واستعملوه في حماية كهنوتهم وكذبهم المقدس، ومُعتقد حمله رجاله خُلقا إنسانيا رفيعا في العالمين. ومن وراء ذلك يؤكد نيتشه أن الدين يحتاج إلى رجولة خاصة تحمل رسالته إلى العالم من غير انسداد ولا استبداد، وبلا تحريف ولا تخريف.

يستأنف القول: “لقد حرمتنا المسيحية من مجاني (حصاد) الثقافة القديمة، وبعد ذلك حرمتنا أيضاً من ثمار حضارة الإسلام. العالم الغرائبي لحضارة العرب في إسبانيا، والذي هو في الأساس أكثر قربا إلينا من روما واليونان، والذي يتناسب أكثر مع شعورنا وذوقنا، قد غُمر -ولست أقول بأية أقدام- لماذا؟ لأنه صدر لأنه دان بمولده لغرائز أرستقراطية، لغرائز رجولية، لأنه أكد الحياة بما فيه من الغنى الناذر والمهذَّب للحياة الأندلسية”[29]، وأضاف “العالم الرائع للأندلسيين قد غُمر فحُرمت منه أوربا”[30]، وانتقد الحروب الصليبية بشدة ونعت الصليبيين بالمتخلفين والفقراء، حيث قال: “الصليبيون حاربوا في زمن آخر ضد أمرٍ كان عليهم أن يرتموا أمامه فوق التراب: حضارة تجاهها حتى قرننا التاسع عشر يبدو بالغ الفقر! بالغ التأخر! …بمساعدة السيوف الجرمانية وبالدم والشجاعة الجرمانية، أقامت الكنيسة حربا مستميتة ضد كل نبالة موجودة فوق الأرض، وحول هذه النقطة ثمة مقدار من الأسئلة المؤلمة…”[31]

نيتشه ينتصر للإسلام والمسلمين

وهو ينتقد الكنيسة يستحضر نيتشه نظافة الحضارة الإسلامية في الأندلس فيقول: “الكنيسة تقاوم حتى النظافة لأن المعيار الأول على المسيحية بعد طرد المسلمين من الأندلس كان إغلاق الحمامات العامة التي كانت قرطبة وحدها تملك 270 حماما”[32]، ويضيف مقارنا: “لم يكن ثمة شكوك في الاتجاه الذي اتخذ لا بين الإسلام والمسيحية، ولا بالأولى بين عربي ويهودي. القرار قد اتُّخذ[33]: هنا، ولا أحد هنا حر في اختياره. فإما أن يكون شندالا (TCHANDALA) (الطبقة السفلى)، وإما ألا يكون شندالا. “حرب بلا هوادة على روما! سلام وصداقة مع الإسلام”، هكذا فكر وهكذا  فعل ذلك الروح الكبير الحر، العبقري بين الأباطرة الألمان، فريدرك الثاني.”[34]

لا يتقبل نيتشه أن يظل الألمان في نظره أسيري عقيدة الكهنة بل عليهم أن يتحرروا منها ويتصالحوا مع الإسلام ويدخلوا في صداقة مع المسلمين الذين آذوهم في حروبهم باسم الرب و”العقيدة المقدسة”. فلا يسمح بخيار غير إحداث قطيعة كُلية مع كنائس روما المسيحية التي تتحالف مع كل النبلاء والأرذلين كي تحارب الحضارات الأخرى ومنها الحضارة الشرقية (الأندلس) وتعتدي عليها من أجل المال حيث كان الشرق غنيا وأوربا فقيرة. هذا ما يفكر فيه ويعمل من أجله فريدريك نيتشه حسب ما فهمته من تصريحه. وكأنه كان يدعو -بكلمة واحدة- الشعب الألماني إلى التخلي عن المسيحية المحرفة واعتناق الإسلام.

خاتمة

نستنتج أن الفلسفة الألمانية خلال القرن 19 كانت مُشبعة بموضوع الدين وقضاياه الكبرى، كما أنها في الغالب رفضت بفطرتها وتجاربها وما راكمته في تاريخها أخلاق التدين المسيحي ومعها أغلب الاعتقادات صحيحة كانت أو غير صحيحة، دون حمل نفس الموقف من دين الإسلام، حيث لم يطلع عليه نيتشه من مصادره الأصلية. لقد حاول نيتشه من جهته صناعة دين جديد يتجاوز السقوط الأخلاقي والإنساني للدين المسيحي، فقد كان معجبا بالحضارة الإسلامية وبالديانة البوذية مقارنة مع الديانة المسيحية التي ألصق بها كل الرذائل.

انتقد نيتشه الدين باعتباره مُخدرا يكسر عنفوان الإنسان ويقيد شموخ نفسه ويغير فطرته، غير أنه لم يضمن الخلاص لنفوس تمردت على الدين ولم تملأ فراغاته الروحية، انتقد الدين الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأخلاقي، غير أنه لم يستطيع –في نظري- نقد الدين نقدا فلسفيا ميتافيزيقيا.

الهوامش:ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – بدوي، عبد الرحمن. نيتشه، مكتبة النهضة المصرية، مصر، طبعة 1، 1939م، ص: 31، 32

[2] – أرتور، شوبنهاور (1788 – 1860 ) Arthur Schopenhauer فيلسوف ألماني، معروف بفلسفته التشاؤمية.

[3] – رمسيس، عوض. ملحدون محدثون ومعاصرون، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت-القاهرة، ط1، 1998، ص:18

[4] – فريديريك، نيتشه. عدو المسيح، مرجع سابق، ص: 52-57

[5] – الفيلولوجيا فرع من فروع علم اللغة التي تركز على مقارنة اللغات لتحديد الصلة التاريخية بينها مثل القرابة الوراثية والأصل المشترك للغة …

[6] –  بدوي، عبد الرحمن. نيتشه، مرجع سابق، ص: 41، 42

[7] – انظر: الفراك أحمد، فلسفة المشترك الإنساني بين المسلمين والغرب، بحث في العوائق المنهجية والمعرفية، أفريقيا الشرق، المغرب،  ط1، 2016، ص 120

[8] – فريدريك، نيتشه. جينيالوجيا الأخلاق، ترجمة محمد الناجي، أفريقيا الشرق، المغرب، 2004م، ص:114

[9] – برتراند، راسل. حكمة الغرب، ترجمة: فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ط2، 2009م، ج2، ص: 176

[10] –  فريدريك، نيتشه. أفول الأصنام، ترجمة محمد الناجي وحسان بورقية، أفريقيا الشرق، المغرب، ط1، 1996م ، ص:31

[11] – بولس، سلامة. الصراع في الوجود، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1952، ص: 218

[12] – فوكو، ميشال. الكلمات والأشياء، ترجمة مطاع صفدي وآخرون، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990م، ص: 281

[13] – رمسيس، عوض. ملحدون محدثون ومعاصرون، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت- القاهرة، ط1، 1998، ص: 20

[14] – المرجع نفسه، ص: 20

[15] –  فريديريك، نيتشه. عدو المسيح، مرجع سابق.

[16] – المرجع نفسه، ص 58

[17] – المرجع نفسه، ص 78

[18] – المرجع نفسه، ص 58

[19] – المرجع نفسه، ص 60

[20] – المرجع نفسه، ص 28

[21] – المرجع نفسه، ص 49

[22] – المرجع نفسه، ص 71

[23] – يوحنا، 4/22

[24] – فريديريك، نيتشه. عدو المسيح، مرجع سابق، ص 72

[25] –  Oswald Spengler (1880-1936) فيلسوف ألماني معاصر، من مؤلفاته “اضمحلال الغرب” الذي صدر عام 1922، وهو الذي تحدث عما يسميه بـ”الإسلام السحري”.

[26] –  روى، جاكسون. نيتشه والإسلام، ترجمة: حمود حمود، دار جداول، بيروت، ط1، 2014.

[27] – فريديريك، نيتشه. عدو المسيح، مرجع سابق، ص 179

[28] – يقصد القديس بولس أو بولس الطرسوسي ،كان يهوديا ثم تحول قائدا مسيحيا أضاف الكثير من النصوص إلى العهد الجديد.

[29] – المرجع نفسه، ص 179، 180

[30] – المرجع نفسه والصفحة.

[31] – المرجع نفسه، ص 180

[32] – المرجع نفسه، ص 65

[33] – يقصد ما ورد في النص السابق.

[34] – المرجع نفسه، ص 181

التعليقات

اظهر المزيد

د. أحمد الفراك

باحث وكاتب مغربي، يعمل حالياً أستاذاً للفلسفة الفلسفة والمنطق بكلية أصول الدين وحوار الحضارات التابعة لجامعة عبد المالك السعدي، تطوان (المغرب)، وهو عضو رابطة الكتاب والأدباء العرب.، وعضو رئيس بالمعهد الأوربي للعلوم الإسلامية، وعضو بمركز فاطمة الفهرية للأبحاث والدراسات (مفاد) بفاس، وعضو المركز الدولي للاستراتيجيات التربوية والأسرية ICEFS)) بلندن، وعضو مركز سراج للأبحاث والدراسات بلندن، وعضو هيئة تحرير مجلة كلية أصول الدين وحوار الحضارات، وعضو مجموعة البحث في الحوار الحضاري والجدل العقدي، وعضو مجلس الكلية بكلية أصول الدين وحوار الحضارات، وعضو مكتب شعبة الفلسفة والفكر الإسلامي والحضارة، ورئيس نادي ابن رشد للحكمة بكلية أصول الدين وحوار الحضارات، وعضو مُـحكِّم في مجلات علمية وندوات ومؤتمرات وطنية ودولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *