حوار الهويات…. من الذات الى الاخر.. رؤية اسلامية بعيدا عن صراع المركزية الذاتية وانغلاق الانا
حوار الهويات…. من الذات الى الاخر
رؤية اسلامية بعيدا عن صراع المركزية الذاتية وانغلاق الانا
احترام الرأي والاختلاف معضلة واشكالية زمانية كانت ولا تزال ترافق البشر في مشروع بناء الحضارة الانسانية، فالكثير من المشاكل والخلافات والأزمات والحروب كان أحد أسبابها عدم وجود ثقافة الحوار وقبول الرأي الاخر.
ورغم ان عملية الإثراء الثقافي والعلمي ومقياس تطور المجتمعات والشعوب، تقوم على ثقافة اختلاف الرأي، إلا ان انغلاق العقول جعل من الاختلاف خلاف أضعف المجتمع.
ديننا الإسلامي عمل بهذه الثقافة، فالإسلام له دور كبير في تعزيزها ، وهذا بين في قوله تعالى: ” وشاورهم في الأمر”، في إشارة الى أهمية احترام الرأي والاختلاف للتوصل الى حقيقة المشروع الانساني في الارض.
إذا السؤال هو: لماذا لا نملك هذه الثقافة ؟ ولماذا لا نهتم بها؟
في الحقيقة هناك سببين: الأول الموروث الاجتماعي السلبي، مثل بعض العادات والتقاليد العصبية العشائرية البدوية. والثاني عدم وجود توجيه وإرشاد ينمي هذه الثقافة في العملية التربوية وكذا التعليمية، كما لا يتم توجيه وسائل الإعلام لنشر هذه الثقافة وتعزيزها من خلال البرامج والطروحات، واستيراد أفكار وتجارب تفعيل هذه الثقافة من الدول الأخرى، إضافة الى تقديم الندوات والمؤتمرات وورش التوعية والحلقات الحوارية وإعطاء الفرصة للآخر وتعلمه كيفية السيطرة على انفعالاته، ليتغلب على الموروث الاجتماعي السلبي، فتنمية هذه الثقافة تحتاج الى عمل يستمر سنوات يرافق الأجيال في كل مستوى من دراستهم وحياتهم بل حتى على مستوى وجودهم .
من هنا تبدأ مرحلة التغيير، حيث تنتشر ثقافة احترام الرأي والاختلاف من العائلة والمدرسة الى أعلى الهرم.. عندها إذا شعر المواطن بأن الحكومة تدعم هذه الثقافة يزداد إيمانه وعمله بها، ليحل التسامح والترابط بين مكونات المجتمع.
من ناحية اخرى نجد ان الانطلاق نحو الخروج من أزماتنا وبناء وتدعيم البديل الحضاري العالمي تكمن في فهم الحالة الراهنة للإنسانية جمعاء؛ بحيث ندرس مآسيها وأزماتها التي تزداد كثافة وظلاما عبر الزمن. وهذا الذي أدى إلى تقاطعات وخلافات خطيرة سرعان ما تحولت إلى صراعات فكرية مذهبية وطائفية دينية بين حملة الأديان المختلفة، وانقسامات داخل الذين يدينون بالدين الواحد، وانشطارات داخل الفرق والطوائف .
ولذلك ولذلك صار واجب على المفكرين والباحثون والعلماء من المسلمين وغيرهم، الاهتمام بموضوع التعايش والتقارب؛ نظرا لتعلق الموضوع بحياة الناس وتعاملاتهم في شتى جوانب الحياة؛ ونظرا لكثرة الشبهات المثارة حول الموضوع نتيجة للظرفية الخاصة والحرجة التي تمر بها المجتمعات العربية والغربية على حد سواء . وهذا بدوره يستوجب التاكيد على أن الأصل الشرعي في العلاقات الإنسانية السلم لا الحرب . والرفق لا العنف، واللين لا الشدة، والرقة لا الغلظة، لأن الإسلام دين ينبعث عن مفهوم إلهي كوني، كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “إنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً داعِياً، وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِياً” . أي أن نبي الرحمة بعث مبشر وهاديا وميسرا، وداعيا إلى الله على أسس وقيم ثابتة وجامعة، كالإحسان والتسامح والحرية والمساواة، بل إن الإسلام احتضن كل القيم الإنسانية العليا التي تنظم المجتمع الإنساني على أساس التعاون والتضامن والسلم والأمان والمحبة والاستقرار، وضبط هذا السلوك الإنساني بكل ما يكفل كرامة الإنسان وينمي وشائج الاتصال بين الجميع ، والرسول محمد عليه الصلاة والسلام عمل على اقتلاع جذور التعصب، وسد كل منافذها ، حينما قال: “لَيْسَ مِنّا مَنْ دَعا إِلى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنّا مَنْ قَاتَلَ عَلى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنّا مَنْ ماتَ عَلى عَصَبِيَّةٍ” ، وحرم حمية الجاهلية فقال: “دَعُوها فإِنَّهَا مُنْتِنَة” . فلا شدة ولا عسر ولا تعصب ولا بغض ولا حقد، بل الرحمة واليسر والسماحة والعطف والمحبة والتعايش.
لهذا ليس التعايش أمر صعب إذا ما تصرفنا بمطق العقل والدين ونظرنا الى إنسانيتنا وزرعنا الحب في نفوسنا، عندها سنجد مجالا واسعا للعيش والتعايش بسلام.
في المقابل ومع ما تقدم ذكره تسعى الآلية الثقافية الغربية المسيسة والمؤدلجة إلى تخريب وازاحة قيم الآخر بتضخيم سلبياته ونواقصه عمدا، ومنها إقصاء الدين ورموزه وقيمه ومعانيه من الحياة.
إن الفوقية والتمركز والسعي إلى إقصاء ثقافة الآخر والسخرية من جنسه أو لونه أو دينه، لا ينبغي أن تدفع المسلمين إلى سلوك مماثل تجاه الثقافات والأديان والشعوب الأخرى. لا ينبغي ولا يصح الوقوع في فخ التمركز وإلغاء الآخر، كما لا يكون بالمطابقة والتماثل مع الغرب ومسايرته بالتفكير والشعور والعيش.. وإنما بممارسة الاختلاف من موقع الحوار والتواصل وإظهار القدوة الحسنة التي تنتج في حياة المسلم سلوكا وحركة في الحياة، راقية مثمرة، ومشاركة في صنع الحضارة الإنسانية.
ثم إن أي كلام عن التعايش وحوار الحضارات لا يمكن أن يتم أو يتحقق في هذه الأجواء الثقافية والسياسية السلبية المليئة بأمراض الانا والاستكبار والتعالي. اذ ليس من شعار براق مغري تطلقه السياسة الغربية، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا عناوين لمشاريع سياسية لا تنتمي الى ما تدعي.
في المقابل نجد ان الاختلاف العرقي وفق الرؤية الاسلامية الانسانية هو اختلاف في إطار الأمة الواحدة، يحتم احترام الآخر كما هو على الصورة التي خلقه الله عليها. ذلك ان احترام الآخر كما هو لونا ولسانا وعقيدة ومذهبا بل وفكرا، يشكل قاعدة من قواعد السلوك الديني في الإسلام، فكان من طبيعة رحمة الله تعالى اختلاف الشرائع والمناهج والالسن والالوان وطرائق التفكير، قال تعالى: ” وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ” المائدة، 48 . وقوله تعالى: ” و ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين” هود، 118 . كما ركز القرآن على مبدا السلام ، نجد ذلك بين في قوله تعالى : ” ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا”؛ ومن أجل هذا فإن الله أمرنا أن نبذل ما نستطيع لننعم بهذه النعمة، فقال تعالى: “ادخلوا في السلم كافة” في هذه الاية أمر بالسلام العالمي .
الى هذا الحد نجد ان الحوار سنة إلهية وفطرة انسانية، لكن عدم استنفاد الوسع في حل المشكلات بالحوار واللجوء قبل ذلك إلى القوة والتعصب، كما حدث ولا يزال يحدث في هذا العالم المليء بالصراع، الخاوي من ثقافة الحوار والتسامح في كثير من صراعاته وخلافاته المتزايدة ، خاصة مع تعقد المصالح وتشابكها وزيادة القوة الفتاكة في أيدي الناس، وهي أخطار تهدد البشرية جمعاء.
وهكذا قام المنهج الحواري في القران الكريم على فرضية أن الأصل في الوجود الإنساني هو الحوار والتعايش، كما ان الأصل في الحوار هو الاختلاف، فلا يمكن الكلام إلا بوجود طرفين يشكلان حالة الاختلاف والتضاد، قد يكونا فردين أو فريقين أو قومين أو أمتين.
وهذا ما اكد عليه فيما بعد أساطين الفلسفة التداولية المعاصرة، حيث قرروا أن الحجاج الفلسفي التداولي هو فعالية استدلالية خطابية مبناها على عرض رأي أو الاعتراض عليه، وغرضه إقناع الغير بصواب الرأي المعروض، أو بيان بطلان الرأي المعترض عليه، الأمر الذي يجعل الحجاج الفلسفي التداولي بناء مثنويا تقابليا يتواجه فيه عارض ومعترض، إذ يتوجه فيه كل منهما بآليات إقناعية خاصة، وحقوق وواجبات محددة؛ هذه المقابلة المثتوية من شأنها تغيير تصديقات أو اعتقادات المتقابلين.لهذا تعتبر الفلسفة التداولية من أكثر الفلسفات تمسكا بمقتضيات العقلانية الصحيحة لما تحققه من شروط وضوابط ومعايير، لاعتمادها على آليات معلولة للمجال التداولي، وخاضعة لمحك النظر الاجتماعي، فالمناظرة الحوارية تساعد على فهم وتصور الواقع الاجتماعي الذي يقر بالمبادرة الفردية وبالنزعة الجماعية، وتطالب بإشراك جميع أفراد المجتمع في البحث عن حلول للمشاكل والأوضاع المختلفة، وتقبل وتشجيع عمليات التنقيح والتغيير.
ولا شك أننا نحن المسلمين أحوج ما نكون اليوم إلى دراسة دراسة هذا النوع من الفلسفات كاستثمار عقلاني يفعل الحوار الداخلي بين مكونات الانسان ذاته، والحوار الخارجي مع العالم المحيط بنا. خاصة في إطار ظروف التقهقر الحضاري الراهن.
التعليقات