مقالات

الفلسفة الإسلامية المعاصرة ودواعي التجديد

تقديم:

تعتبر الفلسفة الإسلامية أحد أهم المجالات التي تحتاج إلى التجديد نظرا لما لحقها من تبعية وتقليد، اتفقت أقوال المفكرين على وقوع الأمة العربية و الإسلامية في أزمة كبرى، فمنهم من عدها أزمة منهج، ومنهم من عدها أزمة حكم، وتدبير سياسي ومنهم من اعتبرها أزمة فكرية، والحال أنها أزمة متعددة المداخل، فرضت على الخطاب العربي الإسلامي المعاصر، تجديد النظر في مقومات الأمة العربية الإسلامية ووضع المشاريع والخطط الإصلاحية للخروج من تلك الأزمة، ورفع شعار التجديد، لكن بعض هذه المشاريع «تمارس التقليد تحت غطاء الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، والتقليد تحت غطاء النهضة والتحديث في الفكر العربي المعاصر وكلاهما يجسد آفة التقليد المزدوج ومظهر الاستيلاب والارتهاب الزماني أو المكاني التاريخي أو المستقبلي، مع قفر على محطة حاسمة هي محطة الواقع ومقتضياته ومتطلباته»([1]).

وعليه يمكن القول إن الأمة الإسلامية مرت من مراحل، تداخلت فيها عوامل دينية وسياسية وفكرية، أدت بها إلى التأخر الحضاري والجمود الفكري، حيث فقد الاجتهاد دلالته الأصلية المتسعة ليقتصر على دلالات فقهية متعلقة بأحكام شرعية، ليصبح هذا الاجتهاد جزئياً غير كلي وفقهياً غير حضاري.

و«قد تكون الإشكالية الكبرى التي تتولد عن ذهنية التخلف والتراجع الحضاري: الانغلاق، والتعصب، والتقليد الجماعي، وتلقي المنهج النقلي بدون وعي وإدراك، وإسقاطه بشكل آلي ومجرد على وقائع دون الإحاطة بها، ودون دراسة معمقة وممنهجة للشروط الواجب توفرها والاستطاعات المطلوبة لتنزيل الحكم على محله» ([2]).

لقد أثرت مراحل التقليد والجمود على العقل المسلم بشكل كبير مما جعله يقتصر «على بضع مئات من آيات، نظر فيها الأقدمون على أنها لآيات الأحكام التشريعية. ولا تزال إلى اليوم نبدي فيها ويفيد من خلال ميراث الفقهاء، وليس من خلال موقعها من الرؤية القرآنية؛ حيث الآيات مقاصد عدة تربوية واجتماعية ونفسية وكونية، وحضارية ورسائل الكشف العلمي بحيث لا يخرج الحكم الشرعي أن يكون واحدا منها» ([3]).

بالإضافة إلى أن عقلية التقليد «التي تراكمت مظاهرها وتخلقت عواملها في نفسية الأمة. حولت الفقه وحركته المتجددة من حركة عقلية فاقهة تدور مع الحوادث والنوازل وفقه الواقع لتقديم الحلول لمشكلاته إلى قيد يمنع العقل المسلم ويحد من حركته، ويجعلها واقفة عاجزة مشلولة ضمن أطر لا تتحداها ولا تخرج عنها، ونسيت مقاصد الإسلام وغاياته وكليات الشريعة وحكمها… وصارت الإجابات الإسلامية عن أسئلة الحياة نوعا من شكليات يكفي فيها مجرد المظهر القانوني الفقهي الشكلي، ولو فقدت جوهرها وحقيقتها وروحها ولم تحقق شيئا من مقاصدها وغاياتها» ([4]).

إن التجديد لا يعني أن «نجد تراث أسلافنا، الذي يمثل خلاصة فهمهم وفكرهم في الدين، كما لا يعتبر تحديثا تقليد الغرب ومتابعته في خطواته. بل يستمد التجديد حقيقة من إعادة تشكيل العقل المسلم، ووصل ما انقطع بينه وبين كتاب الله، باعتباره المصدر الوحيد المبين والمفسر على سبيل الإلزام للكتاب الكريم» ([5]).

إن التراث الفقهي يشكل معرفة ضخمة في الكليات والفروع الفقهية، ويمكننا أن نستفيد من تفريعاته وأبوابه وتصنيفاته لكن ينبغي أن يحجب بيننا وبين القرآن الكريم في كليته وأوامره ونواهيه، بل المطلوب منا هو الاتصال المباشر بالكتاب والسنة النبوية، لأن أسئلة الواقع التاريخي والمعاصر تجد أجوبتها في الوحي الإلهي وحينئذ لا بأس من الاستئناس بالتراث لأن «الأخذ الذي ليس معه عطاء لا يكون تحديث الفكر الإسلامي تحديثا خقيقيا وإنما تحديثا وهميا وحسب» ([6]).

وبناء عليه يمكن القول إن الفلسفة تعد أحد أهم مداخل التجديد التي من شأنها أن تستأنف العطاء التجديدي، ومما لاشك فيه أن حاجتنا إلى الإحياء والتجديد للفلسفة الإسلامية المعاصرة سيزداد إلحاحاً، وتبرز ضرورتها إذا نحن نظرنا في واقعنا الفلسفي الراهن والمأزق الفلسفي الذي نعيش فيه، في هذا الصدد يقول طه عبد الرحمن: «ينبغي أن تكون الفلسفة التي نسعى إلى بنائها فلسفة أمة الإسلام، والتزامها بعقيدة هذه الأمة، وتوجيهها لتغيير واقعها وتطويره، وتغييره باتجاه الاتساق مع معايير الإسلام كي لا تكون هذه الفلسفة ترفاً فكرياً لصفوة معزولة عن الواقع، ومتعالية عليه وعلى عقيدة أهله الدينية فالمطلوب لهذه الفلسفة ومنها أن تكون قسمة في المشروع الحضاري الإسلامي، المدعو كي يكون دليل عمل النهضة الإسلامية، التي تعيد الإسلام وأمته إلى موقع الإمامة والصدارة والشهود للحضاري في منتدى الحضارات الإنسانية، قياما بفريضة القيادة والترشيد للعالمين»([7]).

ولعل أهم الدواعي التي تدفع لإعادة النظر في الفلسفة الإسلامية، هو ما لحقها من تبعية وتقليد وجمود، إذ لا يخفى أن الفلسفة عموما غريبة المنشأ، والفلسفة الإسلامية خصوصا كانت رهينة للفلسفة الغربية سواء اليونانية القديمة أو الأروبية الحديثة، مما جعلها تتأثر بمقولات العقل الغربي أكثر من تأثرها بالوحي كمصدر للمعرفة، على الرغم من قوة الجهود الفلسفية الإسلامية والتي كانت في فترة معينة منه للغرب نفسه، لكن هذا يعني أنها لا تزال بحاجة إلى الوقوف على موطن التقليد فيها ومكامن الارتهان سواء للفلسفة الغربية من خلال أخذها بعدة تصورات أنشأها العقل الغربي علما أنها مسلمات لا يلحقها قصور أو تحيز أو ارتهان للماضي واغتراب وانغلاق على التراث دون تجديد النظر فيه، مما يمنع العقل المسلم من بناء نموذج المعرفة الحضارية.

ومن هذا المنطلق برزت دعوة الدكتور طه عبد الرحمن إلى التأصيل والتجديد والاجتهاد لتخليص الأمة العربية من التبعية فكانت اجتهاداته تتجه نحو بناء «فلسفة إسلامية، تجعل الأصل في تجديد الأمة هو تجديد الإنسان، وتجعل الأصل في تجديد الإنسان هو تجديد الروح» ([8]).

يتضح من خلال قول الأستاذ طه عبد الرحمن أن تجديد الأمة يكون بتجديد الإنسان وتجديد الإنسان لا يتم إلا بتجديد روحه.

المطلب الأول: رفع التقليد الحداثي عن القول الفلسفي ونقد التمركز الغربي

 

تسعى الكتابات العربية المعاصرة التي تتناول المركزية الغربية، إلى الوقوف على حقيقتها ومرجعيتها، مبينة وجهها السياسي الاستعماري والاقتصادي المادي، الذي تبرزه مبادئ الحداثة والعولمة. لكن السؤال المطروح هو: هل من شروط إعادة بناء الفلسفة الإسلامية اليوم، الوقوف على هذا الإنتاج الفكري الغربي؟

للإجابة على هذا السؤال نستحضر بعض أقوال العلماء منها: قول حامد طاهر الذي يقول: بأن «موقف الناقد والمستوعب الذي ينطلق من النص الإسلامي، الذي يرسم الحدود والمعالم للتفكير السليم البعيد عن الشطط والداعي إلى أممية القيم، ودورها في تحديد المسار الصحيح للفكر والعلم» ([9]).

يعتبر مشروع طه عبد الرحمن دعوة لتأصيل وتجديد فلسفة إسلامية وتحديدها، غايته تخليص الفلسفة العربية الإسلامية من التقليد الحداثي، مبينا مواطن تأثرها بفكرة التمركز الغربي بقوله: «لا يحتاج الفيلسوف العربي إلى شيء احتياجه استشكال مفهومين ليس أمر منهما بالقول الفلسفي العربي، تسلطا عليه وتجميدا له، وهما مفهوم الفكر الواحد ومفهوم الأمر الواقع» ([10]).

ومن هنا نستنتج أن المركزية الغربية التي فرضت على العالم نموذجها الفكري باعتباره “النموذج الكوني” في حين أنه لا يعدو كونه نموذجاً قومياً خاصاً بالبيئة العربية. يشير إلى ذلك حميد طاهر مؤكدا رأيه: «فالنقص لم يكن في الكفاءة والمشكلة لم تكن في الأرض الرافضة للتفلسف والفلسفة، وإنما كان النقص والعيب والمشكل في البدرة العربية غير الصالحة للإنبات والنمو في عقل الأمة ووجدانها، لأنها من خصوصيات غير الاعتقادية وليس من المشترك الإنساني العام» ([11]).

ويقول طه عبد الرحمن في موضع آخر: «يحق لكل قوم أن يتفلسفوا على مقتضى خصوصيتهم الثقافية، مع الاعتراف لسواهم بذات الحق، وكل فلسفة تدعي الانفراد بهذا الحق لا تكون إلى فلسفة مستبدة أشبه بالعقيدة المتسلطة منها بالفكر المتحرر» ([12]).

«يحق لكل قوم أن يتفلسفوا على مقتضى خصوصيتهم الثقافية، مع الاعتراف لسواهم بذات الحق، وكل فلسفة تدعي الانفراد بهذا الحق لا تكون إلى فلسفة مستبدة أشبه بالعقيدة المتسلطة منها بالفكر المتحرر»

يتضح من خلال قول الأستاذ أن فلسفة التمركز الغربي قد تأسست على منهج الوحدة والاستمرارية الذي كان له أثر كبير في تحويل مسار الفكر السياسي والفلسفي نحو جعل الغرب هو الممثل الشرعي الوحيد لكل الأعمال، بحيث أصبح هذا المنهج «منبثقا في معظم الممارسات الثقافية والسياسية والاقتصادية وأضحى في تركيب المسارات التي تمثلها تلك الممارسات فأنتج بذلك كتلة ضخمة وقوية من الرؤى والتصورات والمفاهيم المتصلة ببعضها هي التي تشكل لبَّ المركزية الغربية وجوهرها» ([13]).

يتضح أن الأمر لم يتوقف عند حدود إنتاج المفاهيم والتصورات، وإذا أمعنا النظر في النموذج الغربي فإننا نجده يذهب إلى أبعد من ذلك حتى يتسنى له بناء شرعية متكاملة لمشروعه الفكري. وقد مارس الغرب عملية التأصيل لنفسه «فرسم بذلك تاريخا متماسكا ومضطردا له، ليبرهن على صواب فروضه، وإجراءاته على نحو مطلق» ([14]).

من هنا يمكن القول إن كل أفعال الغرب في بعض الأحيان وتصوراته حسنات مقبولة يشكر عليها، بدل أن ينتقد  لأنه يعمل ما فيه صلاح للبشرية بذريعة الحداثة والتحديث، إلا أن هذا «التطبيق الحداثي الذي نشهده ونحياه لا كونية فيه، وإنما هو تطبيق محلي، ألزم أصحابه الشعوب به وفرضوا على واقعه،ا فهو عبارة عن الذي رفع إلى رتبة الكوني عنوة» ([15]).

وقد بلغ التأسيس الفلسفي بفكر التمركز مداه مع الفيلسوفيين الألمانيين “كانط” و”هيجل”، كما بين ذلك عبد الله إبراهيم، وقد كانت الماركسية من أهم التيارات الفلسفية الغربية فيما بعد عصر النهضة – عصر هيجل- «من أشد الفلسفات المتصلة بالرؤية الموجهة لمنهج الوحدة الاستمرارية في قولها بالتطور الكلي والحتمي، وقد سعت في طروحتها لتقديم تفسير لمسار التاريخ الإنساني والغربي منه خاصة، … وأفادت الماركسية بصورة جذرية من فكرة الجدل التي طرحها هيجل، إلا أنها غذت إطارها المنطقي بالأفعال الإنسانية بعد أن غذاها هيجل بالمادة العقلية»([16]).

وقد برزت فكرة نهاية التاريخ التي لا تتخيل ظهور نظام يتحدى نظام اللبرالية، كما قرر ذلك صاحب مقولة نهاية التاريخ «أن شطرا عظيما من العالم اليوم لا يرى إيديولوجية واحدة يمكن أن تدعي لنفسها صفة العلمية وإنما في وضع يؤهلها لتحدي الديموقراطية اللبرالية» ([17]).

و«يمكن اعتبار مساهمة فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ أكثر الوثائق كشفا للأهداف التي يفضي إليها منهج الوحدة والاستمرارية، ذلك أن فوكوياما استثمر جملة من التغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية التي وقعت في العقد الأخير من القرن العشرين، ليؤسس من خلالها نظره القائلة، بأن الإنسان الغربي حقق غاية الحياة، وانتزع اعتراف الآخرين وبذلك انتهى التاريخ، لأن المعنى الذي يريد الوصول إليه، أي غايته قد تحققت وهي الليبرالية والديموقراطية الرأسمالية الحرة» ([18]).

يتضح لنا أن مع فوكوياما أصبح الحديث عن أن الوصول إلى الغاية قد تحقق، إذ يقول: «نجد صعوبة في تخيل عالم أفضل بكثير من عالمنا أو تخيل مستقبلا ليس ديموقراطيا ورأسماليا في أساسه» ([19]).

لذلك اعتبر أن محرك التاريخ «هي النفس الباحثة عن اعتراف الآخرين بها وأن انتزاع هذا الاعتراف سيؤدي إلى السيادة التي تتحقق في فضاء حر ديموقراطي. على خلاف هيجل الذي اعتبر أن محرك التاريخ هو العقل – أو الروح وعلى خلاف ماركس الذي يعتبره فعل الإنسان» ([20]).

والنتيجة النهائية التي يقررها فوكوياما بناء على هذا المبدأ هي:

«القطيعة المطلقة بين سكان الجحيم التاريخي، والنخبة الفائزة بالنعمة الخلاصية وحدها دون العالمين» ([21]).

ويعبر طه عبد الرحمن من جهة أخرى عن فكر العولمة بالفكر الأحادي الذي في نظره يستحق أن يكون إنسانيا لكونه «لا يقبل أن يوجد معه فكر آخر، وفكر تقليدي لا يحتمل الإبداع من غير مانعه وفكر تمجيدي لا يمارس النقد على ادعاءاته، وفكر هرمي لا يجيز الاستواء بين عناصره، وفكر مصلحي لا يخدم إلا أغراض القوى المسيطرة، وفكر تصنيعي لا يقوم إلا على وضع الأفكار وشخير أهل الفكر» ([22]).

وبذلك يتبين أن «هذا الفكر الفلسفي، الذي استعرناه من الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، رغم أهميته البالغة في توسيع الآفاق الذي يقارن بين الفلسفات والأنساق الفكرية إلا أنه لم يعد دائرة المذاهب التي عبرت وتعبر عن خصوصيات الواقع الغربي وللعقل الغربي عجزت هي الأخرى كما عجز الموروث الفلسفي اليوناني عن أن يكون فلسفة الأمة الإسلامية» ([23]).

ومن ثم لابد من تبيان هذا العجز في الفكر الغربي وفي الفكر الإسقاطي المعجب بالمقولات الغربية حتى في عجزها.

وبهذا «الموقف الناقد والمستوعب للفكر الغربي الحديث والمعاصر من منطلقات النص الإسلامي نستطيع أن نعيد لتلك الأضداد في الفكر الغربي توافقها وانسجامها في الكل الطي تتمركز فيه دون تناقض ولا صراع مثل قضية صراع بين الدين والعلم وعالم الغيب والشهادة والإنسان والطبيعة والله والكون، إن التاريخ الخاص بأوربا نتائجه على الصعيد الاجتماعي والإنساني والحضاري في هذا الإطار ندرك ما يمنحك أن تقوم به الفلسفة الإسلامية والتصور الذي تقدمه للعلاقة بين الكون والحياة والإنسان من دور في سبيل إعادة الوحدة بين الأضداد والقضاء على الصراع القائم»([24]).

صحيح أن الفكر الغربي تعرض للنقد من داخله كما نجد عند مدرسة “فرانكفورت” ومدرسة “كوبنهاغن ” وغيرهم، إلا أن النقد «ظل في هذا المنهج مقتصرا في معالجة الظواهر التي يدرسها، وتعارضه مع طبيعة الأشياء، ولم يوجه نقدا جذري، فيما نعلم للرؤية التي أظهرته ولزمته، ولا للنتائج التي أفضى إليها خارج حدود الغرب» ([25]).

ونستنتج أنه على الرغم من أهمية هذا النقد باعتباره نشأ في البيئة نفسها التي نشأت فيها المركزية الغربية – وشهد شاهد من أهلها – إلا أنه يظل قاصرا لا يفي بالغرض باعتباره نقدا يعالج النهايات التي وصل إليها الفكر الغربي بالإضافة إلى نقد تحيزي يفتقر للموضوعية والعلمية لكونه ينتقد موقفا لأجل موقف آخر وهذه خاصية تميز بها الفكر الغربي فمعظم نظرياته هي مواقف بنيت على أنقاض مواقف أخرى.

المطلب الثاني: نحو فلسفة إسلامية معاصرة

يعتبر التجديد والاجتهاد في إنتاج فلسفة إسلامية معاصرة من أهم الأسس والمنطلقات الأساسية، كما كان الاجتهاد في المراحل الأولى من تاريخ الأمة الإسلامية، حركة تسري في العقل المسلم، وتدل على ذلك اجتهادات الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فبواسطة الاجتهاد كانوا يمارسون تجديدهم ويقيمون عمرانهم في الأرض، وكان الاجتهاد الفقهي جزء من الاجتهاد الحضري، وليس كله، ذلك أن الصحابة فهموا أن الوحي ليس مجرد أحكام فقهية جافة تستاثر بالاجتهاد دون غيرها من المعارف المطلوبة لتحقيق الاستخلاف والحضارة والعمران فكان الصحابة رضي الله عنهم يتمتعون بحرية الاجتهاد تمتعا كاملا.

ولذلك وجب التعرف على هذه المرحلة لما لها من الأهمية في توضيح صور الاجتهاد الحضاري بمفهومه الواسع، لكن السؤال المطروح هو: هل نقلد اجتهادات الصحابة؟

في نفس الصدد يقول الدكتور “سعيد شبار“: «لا خلاف في أن عمل الصحابة أصلا من الأصول التي يرجع إليها خاصة إجماعهم، لكن بعد الكتاب والسنة ومعلوم أن الصحابة إنما كانوا يجتهدون بعد أن يعيهم الطلب من الكتاب والسنة فلو كان الاقتداء بهم في شيء فإنما يكون في أمثالهم للكتاب والسنة فهما واستيعابا لأحكام التكليف والاستخلاف والشهادة ثم تنزيلا لها وعملا بها وهو اقتداء بهم في المنهج والنظر لا في نفس التنزيل والعمل وتجربة الصحابة رضوان الله عليهم وإن كانت التجربة الموسسة الأولى فهي محكومة بظروف زمنها ومكانها»([26]).

إن منهجية التعامل المباشر مع القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية منهجية تمكن العقل الإسلامي من التخلص من التبعية العمياء لما صنعه الأوائل، فإذا كانوا قد قاعدوا القواعد وحدود الأصول والفروع، هذا من جهة ومن جهة أخرى نجد أن مفهوم النص الشرعي كما تقدم هو مجموع النص القرآني والنبوي منشأه ومصدره واحد وهو الوحي، ذلك أن وحدة مصدرية الوحي كما يقول “الأستاذ: عبد الرحمن العضراوي“: «تكمن في كونه مؤسسا لأنواع لا نهائية من المعارف البشرية يعطي أشكالا مختلفة من الوعي والمعرفة تبعا لإمكانات تطور العقل البشري في التاريخ وبهذا تفهم هيمنته وتصديقه على الزمان والمكان وأن كل معارف لها زمان ومكان معينين مهما تنوعت إنما هي إمكان حضاري محكوم بالسقف المعرفي الحاصل في المنتوج الحضري لجيل ذلك الزمان والمكان ومصدرية الوحي لشمولية المعرفة تبدو في تلك الهيمنة والتصديق على الفعل الإنساني في مقتضيات الزمان والمكان»([27]).

صفوة القول إن المشكل ليس في الكتب التراثية، فهذه كانت اجتهاد لزمنها ومكانها وليس عيب أن نرجع إليها متى كانت الإفادة متحققة منها وما نريده منها قادر على استيعاب ما نطرحه عليها من مشكلات معاصرة.

إن الفلسفة الإسلامية اليوم لا يمكن أن تتبني تجديد الفكر الإسلامي دون قيامها على مقتضيات القرآن الكريم باعتباره قد وجه إلى فقه الواقع وضرورة تحليله ودراسته باعتباره «خطابا قوميا ولا جغرافيا ولا تاريخيا حتى يحمله المسلمون بتجاريبهم التاريخية وأفهامهم

لابد من أن يكون التجديد في الرؤية الإسلامية، أساسا لكل إنتاج فكري إسلامي وتعتبر الفلسفة الإسلامية أحد أهم المجالات التي تحتاج إلى التجديد نظرا لما لحقها من تبعية وتقليد، وقد جاء المشروع الفلسفي للدكتور طه عبد الرحمن بمثابة دعوة صريحة للعمل على تجديد النظر في الفلسفة الإسلامية.

  • لائحة المصادر والمراجع:
  • طه جابر العلواني، إصلاح الفكر الإسلامي، مدخل إلى نظام الخطاب في الفكر الإسلامي المعاصر، سلسلة: (قضايا إسلامية معاصرة) الكتاب 12، 1998م.
  • طه عبد الرحمن، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، المركز الثقافي العربي، البيضاء المغرب، ط2، 2009م.
  • افرانيس فوكوياما، نهاية التاريخ، ترجمة حسين أحمد أمين، مركز الأهرام للترجمة والنشر، ط1، 1993م.
  • عبد الله إبراهيم، المركزية الغربية، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط2، 2010م.
  • محمد عمارة، نحو فلسفة إسلامية معاصرة، المعهد العالمي للفكر، ط1، 1989م.
  • سعيد شبار، الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، المعهد العالمي للفكر، ط1، 2007م.
  • عبد الرحمن العضراوي، آليات التداخل المعرفي القرآني والتجديد البراديغم المنهجي والتنزيلي في العلوم الإسلامية، الرابطة المحمدية للعلماء.
  • عبد الله إبراهيم، المركزية الغربية، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط2، 2010م.
  • طه عبد الرحمن، في كلمة موجهة للمشاركين في إحدى المنتديات الفكرية، مطبعة النجاح، ط1، سنة 2016 م.
  • طه عبد الرحمن، روح الحداثة، مدخل إلى أسس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب، ط1، 2006م.
  • الحاكمية في الفكر الإسلامي، مجلة كتاب الأمة، العدد 118، 1418هـ.
  • عمر عبيد حسنة، حتى يتحقق الشهود الحضاري، المكتب الإسلامي، ط1، 1991م.

الهوامش:ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] سعيد شبار، الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، المعهد العالمي للفكر، ط1، 2007، ص10.

[2] الحاكمية في الفكر الإسلامي، مجلة كتاب الأمة، العدد 118، 1418هـ، ص13.

[3] عمر عبيد حسنة، حتى يتحقق الشهود الحضاري، المكتب الإسلامي، ط1، 1991م، ص18.

[4] طه جابر العلواني، إصلاح الفكر الإسلامي، مدخل إلى نظام الخطاب في الفكر الإسلامي المعاصر، سلسلة: (قضايا إسلامية معاصرة) الكتاب 12، 1998، ص23 (بتصرف).

[5] طه جابر العلواني، إصلاح الفكر الإسلامي، مدخل إلى نظام الخطاب في الفكر الإسلامي المعاصر، مرجع سابق، ص23 بتصرف.

[6] محمد عمارة، نحو فلسفة إسلامية معاصرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1989م، ص507 بتصرف.

[7] طه عبد الرحمن، روح الحداثة، مدخل إلى أسس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب، ط1، 2006م، ص158.

[8] طه عبد الرحمن، في كلمة موجهة للمشاركين في إحدى المنتديات الفكرية، مطبعة النجاح، ط1، ص14.

[9] حامد طاهر، الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث نحو فلسفة إسلامية معاصرة، ص492.

[10] طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص16.

[11] محمد عمارة، نحو فلسفة إسلامية معاصرة، المعهد العالمي للفكر، ط1، 1989م، ص588.

[12] طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، مرجع سابق، ص21.

[13] عبد الله إبراهيم، المركزية الغربية، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط2، 2010م، ص45.

[14] عبد الله إبراهيم، المركزية الغربية، مرجع سابق، ص45.

[15] طه عبد الرحمن، روح الحداثة، مرجع سابق، ص69.

[16] عبد الله إبراهيم، المركزية الغربية، ص50.

[17] افرانيس فوكوياما، نهاية التاريخ، ترجمة حسين أحمد أمين، مركز الأهرام للترجمة والنشر، ط1، 1993م، ص58.

[18] عبد الله إبراهيم، المركزية الغربية، مرجع سابق، ص54.

[19] فرانسيس فكوياما، نهاية التاريخ، مرجع سابق، ص58.

[20] فرانسيس فكوياما، نهاية التاريخ، مرجع سابق، ص58.

[21] عبد الله إبراهيم، المركزية الفربية، مرجع سابق، ص67.

[22] طه عبد الرحمن، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، المركز الثقافي العربي، البيضاء المغرب، ط2، 2009م، ص209.

[23] محمد عمارة، نحو فلسفة إسلامية معاصرة، مرجع سابق، ص510.

[24] محمد عمارة، نحو فلسفة إسلامية معاصرة، مرجع سابق، ص492.

[25] عبد الله إبراهيم، المركزية الغربية، مرجع سابق، ص58.

[26] سعيد شبار، الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، مرجع سابق، ص26.

[27] عبد الرحمن العضراوي، آليات التداخل المعرفي القرآني والتجديد البراديغم المنهجي والتنزيلي في العلوم الإسلامية، الرابطة المحمدية للعلماء، ص278.

التعليقات

اظهر المزيد

ذ. رفيق نديري

باحث في سلك الدكتوراه بالقاضي عياض _مراكش_، حاصل على الإجازة في شعبة الدراسات الإسلامية، وحاصل على ماستر الحوار الديني والحضاري بالثقافة الإسلامية بجامعة السلطان مولاي سليمان، وعلى الإجازة في شعبة علم الاجتماع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *