قراءات في كتب

نحو ابستيمولوجيا “تأسيساتية” من خلال كتاب “سوسيولوجيا الربيع العربي”

استهــــــــــــــــــــــــلال:

كتب بول فاليري منذ بدايات القرن الماضي:” ليس هناك معنى حقيقي للنص، ولا سلطة للمؤلف عليه، فمهما كان ما يريد قوله، فإنه قد كتب ما كتب. فما أن ينشر النص حتى يغدو مثل جهاز يمكن لكل منا أن يستعمله حسب هواه ووفق الوسائل التي يتوفر عليها، وليس من المؤكد أن واضع الجهاز قد يستعمله أحسن مما سيستعمله غيره… وهكذا يستمر العمل في الوجود من حيث إنه قادر على أن يظهر على غير ما وضعه مؤلفه”[1] .

على ضوء هذا النص يمكن قراءة كتاب “سوسيولوجيا الربيع العربي” للباحث أحمد الشراك، حيث تصبح القراءة هي الفضاء الوحيد التي تتحقق فيه الدلالات المتعددة ضد هذا السعي وراء اعتبار موقع العمل أو الكاتب أو المؤلف المدرك الوحيد للمعنى[2]

تقديـــــــــــــــم:

لقد تناول كتاب “سوسيولوجيا الربيع العربي” للأستاذ أحمد الشراك موضوعا “زئبقيا”، يصعب الإمساك به إذ يتعلق الأمر بأحداث متغيرة وبصيرورة لا متناهية من المواقف والمواقف المضادة لمجموع الفاعلين لتباين مشاربهم واختلاف أفكارهم وطموحاتهم وآمالهم، إذ شكل موضوع الكتاب أرضية هشة وملغمة، إنه الواقع في فورانه وتموجاته وتغيراته المتسارعة: انها الاحتجاجات المليونية العربية، سواء تلك التي أدت إلى انهيار رموز الاستبداد، أو تلك التي أتت بإصلاحات في نظامها السياسي. إن الباحث في دراسته لهذه الأحداث يتوخى الوقوف على أرضية صلبة من الثوابت رغم طابعها المتغير، ويبحث عن الوحدة في ظل التعدد الذي تنتجه في الأدوات والأفكار والأحداث. فهذا الذي يحدث، كيف يمكن فهمه وتفهمه بنوع من الحذر الموضوعي دون الانسياق وراء إصدار الأحكام الجاهزة؟ لقد اختار الأستاذ أحمد الشراك (كما يصرح في هذا الكتاب) في هذه الدراسة مقاربة سوسيولوجية، ليس بالمعنى الضيق، بل بمعنى منفتح انطلاقا من أن السوسيولوجيا علم تركيبي، لها تواشجات مع العلوم الإنسانية والاجتماعية[3] ومع الفلسفة والأدب… فلا يمكن الحديث عن السوسيولوجيا بدون عمق فلسفي. إذ أن الأمر يتعلق بقراءة تأويلية لكثير من أفعال الثورات كالحراك والخطاب والثقافة والدولة والمثقف والوعي…

في هذه الورقة سأقف عند موضوع “الابستيمولوجيا التأسيساتية” في كتاب “سوسيولوجيا الربيع العربي” للأستاذ أحمد الشراك. فالملاحظ أن هذا الكتاب يحكمه خيط ناظم ورؤية ابستيمولوجية تشكل اللحمة الوصفية والتوصيفية لهذه الأحداث، بمعنى أن المتتبع لكل فصول الكتاب يلاحظ أن “الابستيمولوجيا التأسيساتية” تخترقه عبر تجليات أو ملامح أو تصورات تعبر عنها. إذن كيف يمكن تحديدها والإمساك بمبادئها؟

1-في دلالة الابستيمولوجيا التأسيساتية:

تعتي الدلالة اللغوية لمفهوم الابستيمولوجيا l’épistémologie النظر العلمي في الكيفيات التي يتم بها الوقوف على الأشياء ومعرفتها، أما الدلالة اللغوية لمفهوم التأسيساتية constitutionnalisme فتعني الأس والأساس والتأسيس لفهم جديد ولمفهمات جديدة على صعيد المعرفة الإنسانية والاجتماعية[4].

لكن قبل الكشف عن مدلول “الابستيمولوجيا التأسيساتية” يجب التنبيه على أن هذا الكتاب كان في البداية مجرد مقالة عن الاحتجاجات التونسية ثم تحولت إلى مشروع كتاب صغير حول الثورتين (التونسية والمصرية)، إلا أن الأحداث تلاحقت والاحتجاجات تراكمت في الوطن العربي ليتحول إلى كتاب يعيد النظر في مجمل الإشكاليات والأسئلة، كما يعيد هندسته وبنائه وفق تطور الأحداث والمواقف والإصدارات.

في خضم هذا السياق المشحون نظريا وواقعيا بدأ الباحث يبلور ابستيمولوجيته التأسيساتية كقراءة تشخيصية لهذه الأحداث وفي ذات الوقت يمارس قراءة تأويلية تتجاوز الفهم الأول إلى الفهم الثاني.. كما لا تخلو من نفحة نقدية تلتزم ما أمكن “البرودة” والموضوعية في التحليلات والاستنتاجات[5]، بالرغم من وعيه بصعوبة العمل ومشكلاته المركبة.

إن المتتبع لمدار الكتاب يلاحظ أن التأسيساتية كابستيمولوجيا أي كنظر علمي[6]، تخترقه عبر أدوات مفهومية وملامح وتصورات تعبر عنها، وقد اتخذت صورا متعددة هي:

الصورة الأولى: النظر العلمي في كل ما يتصل بالأدوات النظرية المستخدمة في:

– الوقوف على المفاهيم.

– توليدها وانتاجها.

الصورة الثانية: النظر العلمي في الموضوع الذي يؤطر الفعل المعرفي من حيث:

– منجزه.

– الباعث عليه.

– آثاره.

الصورة الثالثة: النظر العلمي في المعايير التي يحتكم إليها (لغوية/ منطقية/ أخلاقية/ سياسية/اجتماعية/دينية) في تقويم موضوع المعرفية وكيفيات تحققها وإنتاجها وأطوارها التاريخية[7].

إن هذه الصور الثلاثة حكمت كل أقسام الكتاب وفصوله بأشكال متفاوتة، صريحة أو ضمنية.

ففي القسم الأول، وعبر فصوله الثلاثة حاول بوعي ابستيمولوجيا تأسيساتي أن يبحث عن مضمرات هذه التأسيساتية من خلال مساءلة المفاهيم التي تعبر عن هذه الاستنتاجات ومحاولة توصيفها بمفاهيم: ثورات، انتفاضات، رجات، نهضات، يقظات … وذلك من أجل تأسيس مفاهيم قادرة على استيعاب ما حدث ويحدث، وتفسير أسباب حدوثه على صعيد الداخل والخارج متوقفا عند مختلف الدراسات بالتحليل والتفكيك الموضوعي وبحذر ابستيمولوجي تأسيساتي يساءل المعاجم اللغوية والتجارب التاريخية السابقة والأساطير الموظفة في صنع الأحداث والمفاهيم مستحضرا تجربة الذات والآخر، لينتهي إلى توصيف دقيق لطبيعة الأحداث / الاحتجاجات من خلال مفهوم “الثورة” أو “الثورات”. أما القسم الثاني فقد حاول فيه بمنطق تأسيساتي أن يفكك خطابات الثورات على مستوى طبيعة الملفوظات التي وظفها وكيفيات تشكلها، وذلك عبر فهمها وتأويلها والكشف عن بنياتها العميقة، موضحا مكامن التفرد والتميز والإبداع الذي لم تألفه الثورات السابقة معلنا عن تأسيس خطاب جديد والذي أطرته الكتابات والهتافات والرسوم والأيقونات والغرافيتيات وتعددت حوامله (تكنولوجية ومادية وجسدية…)[8]، كما حلل محتذيات هذا الخطاب حسب التخصصات والحقول المعرفية والثقافية، ان على المستوى السياسي: الرحيل، السقوط، الرغبة والإرادة، التغيير والإصلاح، أو على المستوى القيمي: الكرامة، الحرية، الوحدة، المساواة، العدالة. أو على المستوى الاقتصادي والاجتماعي: الفساد، أو على المستوى الحقوقي: رفض التعذيب والاعتقال التعسفي والاختطاف والاغتيال والإخفاء، إلغاء عقوبة الإعدام. مشيرا في الوقت ذاته إلى تشكل معجم لغوي جديد يتناغم مع التطورات والوقائع المحلية، وسافرت بين الشعوب المحتجة : [ما مفاكينش، العياشة، الشبيحة، الفلول، البلطجية…].

وقد حاول في القسم الثالث أن يحيط بالمكون الثقافي على مستوى الأدوار والوظائف وعلى مستوى المتون، كما على مستوى التفاعل مع الغير… فقد كان المثقفون قبل الثورات مقسمين إلى توجهين: توجه مساند لأنظمة الاستبداد، وتوجه معارض لها، إلا أنه أثناء الثورات لم يعودوا فاعلين في الأحداث بقدر ما انحسر دورهم، وظهر مثقف جديد مشاكس سماه الباحث “بالمثقف التأسيساتي”[9] غير متخندق في اتجاه ما، بل هو هامشي وميتاثوري، نزيه ولا مزيف،ـ الخبير والرقمي والمدون الذي يستعمل تكنولوجيا الاتصال ضمن أجل تنوير الواقع. إن هذا التوصيف الجديد للمثقف تم استنباته في الحقل الابستيمولوجي، لأن المفاهيم الكلاسيكية للمثقف (العضوي والدعوي والرسولي) تحتاج إلى تحيين ولا تستجيب للتحولات والتغيرات، أو على الأقل للأحداث والاحتجاجات الكبرى التي شهدها العالم العربي. وعلى هذا الأساس، فالمستوى السياسي أتى بأسئلة جديدة على المستوى الثقافي تراوحت في نظر الباحث ما بين الجدة والتطور من جهة، وما بين النكوص نحو القدامة والظلامية من جهة أخرى، لكن في المجمل، لاشك أن هذه الثورات أسست لثقافة سياسية جديدة قد يكون لها اثر ليس بالضرورة في اللحظة الراهنة، بل قد يمتد هذا الأثر بعيدا في الزمن السياسي العربي القادم[10].

وقد انصب في القسم الرابع على دراسة ملامح بناء الدولة الجديدة في أرض الثورات من خلال تحديد ترسانة من المفاهيم وعلى رأسها مفهوم الدولة، والدولة الإسلامية والدولة المدنية والدولة الديمقراطية والدولة الوطنية، محاولا الإجابة بطريقة أو بأخرى عن آفاق الدستورانية والاستحقاقية[11]. وهل صناديق الاقتراع كافية لتأسيس دولة جديدة؟ وما هي أهم الملامح؟ وأين تكمن هذه التأسيساتية التي تأخذ تلوينات نظرية حسب هذا القطر أو ذاك، حسب هذه التجربة أو تلك؟ انطلاقا من الاختلافات الموجودة بين الثورات في تونس ومصر واليمن وسوريا… اختلافات امتدت إلى بلدان الإصلاحات السياسية في أفق تأسيساتية قد تكون بمضمون مختلف سواء لدى الثورات أو الاحتجاجات[12]، أما القسم الخامس والأخير، فقد خصص لبيبليوغرافيا الثورات. يظهر متن اشتغال التأسيساتية رؤية ومنهجا، وآفاقها في استشراف المستقبل رغم كل المعوقات الذاتية والموضوعية وما سماه بـ”ما بعد الثورات التأسيساتية”[13]!

إذن، ومن خلال عرضنا لمحتويات فصول الكتاب، نلاحظ أن الابستيمولوجيا التأسيساتية حكمت كل فصوله باعتبارها أولا، استراتيجية نظرية مفهومية أو نظر علمي بعمق فلسفي لم يسقط في التجريب والتقنية واللغة الكمية، وثانيا، رؤية ابستيمولوجية تتوخى تأسيس ابستيمية جديدة وأفقا مغايرا للتفكير، لا يتنفس إلا لغة النقد باستمرار.

2- النظر العلمي التأسيساتي المفهومي:

  • بين التفكيك والإبداع:

لقد سعى الباحث في كتابه “سوسولوجيا الربيع العربي” إلى تبني منظومة مفاهيمية جديدة قادرة على الإحاطة بكل متغيرات الحدث ومواكبته من جهة، ووضعته أمام تحد حقيقي للتخلي عن المنظومة المفاهيمية التقليدية من جهة أخرى، ومن تم العمل على تفكيك المفاهيم ومساءلتها والكشف عن طبقاتها الجيولوجية الدلالية وذلك من أجل توحيد الاسس النظرية التي يجب أن ينطلق منها من أجل فهم مختلف الأحداث التي شهدها الشارع العربي لما لها من تأثير بارز في تغيير موازين القوى في المنطقة.

إن سعي الباحثين نحو فهم هذه الاحتجاجات المليونية في العالم العربي، جعلهم يبحثون عن تسمية محددة لهذه الأحداث، الأمر الذي أفضى إلى عدم الاتفاق، وهذا ما يعيق توحيد الأسس النظرية التي يجب أن تنطلق منها الأبحاث، من هذا المنطلق يعتبر الباحث أن التشخيص ليس فقط وصف بارد ومحايد لأحداث ووقائع، بل قد يتشاوج التشخيص مع النظر والتأويل … بل ويتواصل أحيانا مع اختيارات نظرية وحتى إيديولوجية. إذا لم يكن تشخيصا معرفيا.. فالتشخيص ليس بعيدا أو في تفاصل مع حراك التسميات، لأن التسميات هي وجه آخر للتشخيص[14]. إن هذا الوعي الابستيمولوجي التأسيساتي للباحث حول صعوبات التوصيف والإشكالات النظرية التي يطرحها المفهوم جعله يستدعي زمرة من المفاهيم: الانتفاضة، الثورة، النهضة، الإصلاح والتغيير/ الربيع العربي، الربيع الديموقراطي، الربيع الديمقراطي العربي، ربيع الغضب، الانقلاب الشعبي. وبعد عمليات التفكيك التي يتطلبها الوعي الابستيمولوجي التأسيساتي استقر إلى مفهوم الثورة بالجمع وسماها بالثورات التأسيساتية، حيث اعتبر أن استعباد مفاهيم كالتمرد والانتفاضة والعصيان المدني والنهضة، ليس استبعادا لهذه المفاهيم في حد ذاتها، وإنما هو استبعاد لآلية نظرية ومفاهيمية تحكمت في هذه التلفيظات[15]، بمعنى أن هناك إسقاط لنموذج مر في التاريخ البشري.

وهذا الاختيار لمفهوم “الثورة” دون المفاهيم الأخرى تأسس وفق تفسير ابستيمولوجي دلالي مفاده أن الثورة، تغيير شامل للنظام السياسي، فقد يترتب عن هذا التغيير سقوط الدستور (أعلى وثيقة قانونية تعاقدية في البلد) مع رئيس الدولة وتنحيته وسقوط عمل الحكومة، حيث تكون هذه أول خطوة، بل الخطوة المفتاح من أجل إنجاز دستور جديد، وفق آليات انتخابية، وتحديدا موقف انتخاب مجلس تأسيسي، يكون من علمائه تحرير وصياغة البنود الدستورية التي تتوافق والحالة السياسية الجديدة التي أحدثتها الثورة، دستور جديد بالمعنى الكامل للكلمة، وليس مجرد تعديلات دستورية إصلاحية[16]، إلا أن كل مجتمع أسس بطريقته الخاصة لهذا التحول، فهي ثورات مختلفة في  التفاصيل حسب الخصوصية والإمكانات الذاتية وطبيعة القوى الحيوية في هذا المجتمع أو ذاك…

إن هذه الثورات التأسيساتية إذن، ستؤسس لفهم جديد ولمفهمات ومفاهيم جديدة قادرة على استيعاب ما حدث أي أن المنحى المنهجي والابستيمولوجي يجب أن يلائم في ذات الوقت المنحى الاجتماعي والسياسي.

إن دائرة التشخيص والمساءلة للمرجعيات الكلاسيكية شكل لبنة أساسية للوعي الابستيمولوجي التأسيساتي وتجلى من خلال تفكيك مقولة المثقف العضوي (عند غرامشي) والمثقف الملتزم (عند سارتر) ومقوله نهاية المثقف (عند ريجيس دوبري)، فكل هذه المفاهيم استتنفذت دورها في ظل ما أفرزه واقع الثورات من غياب للمثقف لا على مستوى قيادة الثورات أو تأطيرها فكريا وسياسيا وإيديولوجيا أو الدفاع عنها، مما فرض على الباحث بناء مفهوم جديد للمثقف ينسجم مع طبيعة اللحظة التاريخية، بعدما تم مجاوزة كل التوصيفات الكلاسيكية (أقصد المثقف العضوي أو الملتزم أو المثقف الدعوي أو المثقف الرسولي). ليستعمل مفهوم “المثقف التأسيساتي” المشاكس الذي يمارس النقد دوما، أو ما يطلق عليه الميتا- نقد (نقد من الدرجة الثانية، تمييزا عن النقد من الدرجة الأولى للمثقف المعارض أو الرسولي). إن المثقف المشاكس لا يعني العدمية، أي الرفض لكل شيء، وإنما الانتصار لموقف أو رؤية، مع النقد اللازم[17]، أي أنه لا يمكن أن ينحو منحى التقديس لأي فعل أو رؤية أو ثورة…

لاشك أن بناء المفاهيم يدخل في إطار الوعي الابستيمولوجي التأسيساتي، وفي محاولة الانتقال إلى الإبداعية عبر قراءة الواقع في صيرورته لكي يتقوى الإطار النظري ويتيح إمكانية الفهم، وقد تجلى ذلك من خلال تشخيص لأشكال الوعي وهي: “الوعي الراقد” وهو مفهوم استنبته في الحقل السوسيولوجي واستمده من الأسطورة لكي يعبر به عن مرحلة الرقود أو الكمون التي عرفتها المجتمعات قبل الثورات، إنه يمثل المعارضة النائمة في ما يسمى عادة بالأغلبية “الصامتة”، فهي قادرة على اختراق الاستبداد، وبفعل ارتفاع منسوب الوعي الراقد يتطور إلى وعي آخر سماه الباحث “بالوعي الصامد”، له حمولات وعناوين كثيرة كمعارك السواعد المشلولة (الإضراب عن العمل) أو المعدات الخاوية (الإضراب عن الطعام) أو عبر الاعتصامات والمسيرات وإشعال الشموع أو ارتداء الشارات، أو الوقفات الاحتجاجية المختلفة الأشكال والأنواع، ويتحول هذا الوعي الصامد إلى وعي آخر سماه الباحث “بالوعي الرائد” إلا عبر النضج والاكتمال وعبر ثورات كما هو الحال في البلدان العربية اليوم خاصة في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا…[18].

إذن، قد مكن النظر المفهومي التأسيساتي من الإعلان عن إفلاس منظومة من المفاهيم التي لم تعد تفي على نحو ملائم بتفسير هذا الذي يحدث بشكل استثنائي، لأن الثورة تأتي فتقضي على المعايير المتبعة لتؤدي إلى صياغة جذرية للمشكلات وتجديد كلي للمناهج بحيث يغدو من المتعذر استعمال نفس المفاهيم، لأن الأمر يتعلق بالانتقال من براديغم قديم إلى آخر جديد إذا ما حاولنا استعارة موقف “توماس كون”[19]. هذا الأمر ينطبق على ثورات الربيع العربي التي نقلتنا من عالم إلى عالم آخر، وذلك من خلال المفاهيم التي أصبحنا نرى بها هذا العالم، وكتاب “سوسيولوجيا الربيع العربي” يشكل منظارا ابستمولوجيا ننظر به إلى الواقع السياسي العربي الراهن في صيرورة تشكله الثورية، سواء على مستوى خطاباته أو وقائعه.

3- النظر العلمي التأسيساتي لخطابات الثورة:

  • بين التفكيك والتأويل:

مما لاشك فيه أن الرصد الموضوعي لكل ثورة، ينطلق من استكشاف بنياتها الخطابية، ولما كانت ثورات الربيع العربي مختلفة في أساليب تعبيراتها، فإنها تحتاج إلى قراءة تفكيكية وتأويلية تكشف عن تكوينها وتكونها وإيقاعها على أساس أن الخطاب هو البطارية الدافعة، وبدونه لا يمكن السير ولا الوصول إلى مقامات الوصول[20].

إن التشكيلات الخطابية التي ميزت الثورات التأسيساتية أبرزت المنحى الإبداعي لهذا الخطاب الاحتجاجي والثوري الذي لم يكون مسبوقا من قبل في تاريخ الإنسانية. إذ تم اللجوء إلى استراتيجيات لإنتاج الخطاب والمتمثل في ما سماه الباحث بالحوامل والمحتذيات:

ما يمكن استنطاقه من خلال القاموس المستعمل في خطاب الثورات أنه قاموس ينهل مما اسماه الباحث من مخزون “الوعي الرائد”، بحيث يتناغم مع الوقائع الجديدة وإيقاعات الأحداث ويراعي طبيعة السياقات.

إن خطابات التأسيساتية توزعت بين الخطاب السياسي والخطاب القيمي والخطاب الاقتصادي والاجتماعي والحقوقي، لكن في ظل أفق براديغم جديد وبعلاقات جديدة، بل والتجأت هذه الثورات التأسيساتية إلى “الغرافيتيا Graffit، من أجل التعبئة والتجنيد للفوران والاحتجاج، وميزها على صعيد اللفظ واللغة، أو على صعيد الأيقونات والرسوم والبورتريهات، وهو ما جعله ينتزع شرعية جماهيرية علنية لم تكن له من قبل في العالم العربي، وقد قسم الباحث الغرافيتيا (خطاب هامشي) إلى “الكترونية” و“اسمنتية”. فإذا كانت الأولى تقترن بحامل هو الجدار الافتراضي الذي تحققه شبكات التواصل الاجتماعي (خاصة الفايسبوك)، فإن الثانية، ارتبطت بحامل هو الجدار الإسمنتي [الجدران، الابواب، الارض،…] فمهما تعددت هذه الحوامل فإن وظيفتها تتمثل في الحشد والتحريض والعصيان، إنها “أداة حرب”، بحيث تتطلب السرية في الإنجاز لأن صاحبها معرض لكل أشكال العقاب، كما أنها تتعرض من طرف السلطة للمحو والتشطيب والاتلاف، إنها تشكل خطرا قد يشعل فتيلا ويوقظ حركة أو يحرض على عصيان. وهنا تكمن قوة الهامش[21].

إن الناظر إلى طبيعة الخطاب الذي أنتجته الثورة التأسيساتية يستوقفه خطابان أساسيان مرتبطان إلى حد كبير بالغرافيتيا، هما: الشذرية والسخرية.

يمكن القول بأن الثورات التأسيساتية أبدعت سمفونيات خطابية هدفها التأثير إلى أقصى درجات، وهكذا أبدعت خطابا شذريا: وهو خطاب قصير ومكثف ودال، مبني بلغة أثيلة، يقتات من التراث ويتناص مع القرآن، مع انحياز أحيانا إلى الخطابات الاديو- دينية[22].

وخطاب السخرية: هو خطاب تفكهي اتجاه الأنا والآخر، ذواتا وأغيارا، وقائع وأحداث وممارسات وسلوكات، وله مظهرين هما: السخرية اللفظية (الشعارات، الهتافات، النكت…) والسخرية الصورية وتتجسد في الرسم على الجسد والصور الشخصية للرؤساء على نحو كاريكاتوري (مبارك، القذافي، بن علي، عبد الله صالح).

إن النماذج الخطابية التي تم توظيفها أثناء الثورات، تميزت بالابتكار والإبداعية على صعيد البناء والتأثير، ويؤكد الباحث على أنها تحتاج إلى المزيد من التوثيق والدراسة والانفتاح على تخصصات علمية عديدة. كما أن هذه الخطابات شكلت قيمة مضافة في نظر الباحث حيث أطرتها الكتابات والهتافات والرسوم والأيقونات والغرافيتيات[23].

وإجمالا، فإن الابستمولوجيا التأسيساتية التي يحاول أن يرسي أسسها الاستاذ الشراك تنهل من مجالات معرفية متعددة: سوسيولوجيا الثقافة والسياسة والدين فضلا عن الفلسفة والانثروبولوجيا والسيميائيات وتاريخ العلوم، وهذا ما يجعل لهذا الكتاب مداخل متعددة: كالمدخل المفاهيمي والسياقي والمدخل الثقافي والمدخل السياسي والمدخل التوثيقي والببليوغرافي[24].

خاتمة:

لقد حاولت في قراءتي لكتاب “سوسيولوجيا الربيع العربي”، أن أركز على الجانب الابستيمولوجي من خلال المفاهيم والآليات المنهجية التي اعتمدت في دراسة موضوع لازال يتشكل على اعتبار أن الثورة تعقبها ثورات، وقد سميت مداخلتي بالابستيمولوجيا التأسيساتية كبراديغم جديد لتفسير الفعل السياسي بأدوات ومفاهيم جديدة تجاوزت ما هو سائد في حقل الابستمولوجيا، إن كتاب “سوسيولوجيا الربيع العربي” – من وجهة نظري- يعتبر “مقالا في المنهج” لطبيعة عمارته المنطقية وصرامته المنهجية وبناءه المفاهيمي، وجمالية لغته وطرافتها وسلاستها أو لنقل شاعريتها. وهذا بالفعل يعكس شخصية الأستاذ أحمد الشراك الشاعر والمناضل والسوسيولوجي.

الهوامش: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – نص لبول  فاليري  وارد في كتاب “القراءة رافعة رأسها ” للأستاذ عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، 2019، ص 5.

[2] –  نفس المرجع، ص5.

[3] – أحمد الشراك، سوسيولوجيا الربيع العربي، ص 8.

[4] – أحمد الشراك، سوسيولوجيا الربيع العربي، ص 94-95

[5] – أحمد الشراك، سوسيولوجيا الربيع العربي، ص 8.

[6] -حمو النقاري، روح المنهج، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بيروت، لبنان، ط1، ص 33، 2018م.

[7] – حمو النقاري، ص 40.

[8] – أحمد الشراك، سوسيولوجيا الربيع العربي، ص ص  108-112

[9] – نفس المصدر، ص 7.

[10] — أحمد الشراك، سوسيولوجيا الربيع العربي، ص ص 251- 252.

[11] – نفس المصدر، ص7.

[12] – نفس المصدر، ص 7.

[13] – نفس المصدر، ص 459.

[14] – أحمد الشراك، سوسيولوجيا الربيع العربي، ص 23.

[15] – أحمد الشراك، سوسيولوجيا الربيع العربي، ص 91.

[16] -نفس المصدر، ص ص 91- 92.

[17] – أحمد الشراك، سوسيولوجيا الربيع العربي، ص 216.

[18] – أحمد الشراك، سوسيولوجيا الربيع العربي، ص ص 50- 51.

[19] – Thomas KHUN, La structure des révolutions scientifiques, Ed. Flammarion, 2008.

[20] – أحمد الشراك، سوسيولوجيا الربيع العربي، ص 105.

[21] – سوسيولوجيا الربيع العربي، ص 165.

[22] – نفس المصدر، ص 180.

[23] – نفس المصدر، ص 201.

[24] – حوار مع الأستاذ أحمد الشراك، “مجلة ذوات”، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، العدد 50، ص 207.

التعليقات

اظهر المزيد

ذ. حسن الحريري

باحث مغربي، حاصل على دبلوم الدراسات المعمقة في تخصص المنطق وتاريخ العلوم من جامعة محمد الخامس بالرباط. يحضر اْطروحة الدكتوراه في الفلسفة تخصص الابستيمولوجيا حول موضوع: الاْسس المنطقية في الابستيمولوجيا الفوضوية عند فيربند. يشتغل بمجال التدريس في السلك الثانوي التاْهيلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *