الاستخلاف والعمران في ضرورة الوعي بقيم وسنن النهوض والسقوط

الملخّص
إن الغالب المهيمن اليوم على كثير من نظم الفكر والمعرفة في عالمنا العربي والإسلامي، هو الإعمال غير العلمي ولا العملي لمنظومة القيم والمفاهيم، لا على صعيد الفهم ولا على صعيد التنزيل في سياق التداول الفكري والسياسي المعاصر؛ والإهمال شبه الكلي لمنطق اشتغال السنن والقوانين المتحكمة في صياغة وبناء النماذج والكيانات الحضارية والعمرانية. حيث طالت تلك المنظومة من القيم والسنن، اختزالات وتضييقات عدة حَدَّت من معانيها المستوعبة والمؤطرة للوجود الإنساني ككل؛ وتم حصرها في تأويلات وممارسات أضرت بالمسلمين، وأعطت صورة سيئة عن الإسلام مكنت لخصومه منه أكثر مما دافعت عنه. ونتج عن ذلك إعمال منفلت وغير منضبط لأصول الشرع وكلياته ومقاصده، في استخلاف الله تعالى للناس جميعا، وتكريمه لهم جميعا، وتكليفهم جميعا، وإمداده لهم من رزقه جميعا، وإقرار الاختلاف والتنوع بينهم، ودعوتهم الى التعارف والتعاون والتدافع الإيجابي، ومراعاة السنن الموجبة لبناء العمران والسنن الموجبة لنقضه…، وغير ذلك مما هو إنساني مشترك بين الناس جميعا وللإسلام فيه حضور وتوجيه.
من ذلك فهم الخلافة (بمعنى الحكم)، والتي هي أحد فروع الاستخلاف العام تدبيرا لمصالح العباد في المعاش والمعاد، بما يحقق كسبهم وسعيهم وفق هداية الشرع وإرشاده وقيمه ومكارم أخلاقه؛ وكأنها غاية الاستخلاف والدين ومقصدهما الأعلى. وفهم العمران وكأنه كسب دنيوي محض، وسعي في الأرض صرف، وتفاعل مع سنن الكون فقط؛ وكأنه مقطوع الصلة بسنن الدين، وبهديه الى السعي الراشد في الحياة إصلاحا وتقويما. فيغيب على هذا الفهم أن ثمة عقوبات كونية تترتب على المخالفات الدينية؛ وأن ثمة انسجاما ووحدة بنائية متظافرة بين سنن الدين التي هي وحي الله، وبين سنن الكون الذي هو خلق الله.
لقد كان لمفهومي الاستخلاف والعمران، عدة معان ودلالات إنسانية وحضارية؛ تعكس القيم المشتركة بين المسلمين وغيرهم، والقيم الضرورية التي ينبغي أن تسود بينهم. حيث كان ذلك ينعكس على كيان الأمة وعطائها، كما ينعكس على نموذجها الحضاري العمراني وعلى حضورها وإسهامها الكوني والإنساني فيه. لكن انقلب كل ذلك للأسف إلى عكس مراد الشرع منه، لما آل الأمر الى سوء الفهم على مستوى النصوص وسوء التنزيل والتمثل على مستوى الواقع. حيث اختلت مراتب الأحكام وموازين الترجيح، وهيمنت الفروع والجزئيات على الأصول والكليات؛ فأنتجت واقعا من الخلاف والفرقة، والتجزئة والانقسام، وتحكم النموذج المادي في البناء العمراني والحضاري، وتراجع الوعي بمنظومة القيم والسنن الضابطة والمؤثرة في عمليات النهوض والسقوط. وغير ذلك من الآفات التي تبرر تراجع ونكوص المسلمين الحضاري، وجمود حركة الاجتهاد والتجديد والإبداع لديهم، وركونهم الى الاستعارة من تاريخهم القديم أو من تاريخ وحاضر غيرهم من الأمم.
وهذه الورقة تحاول أن تسلط الضوء على طائفة من المفاهيم بهذا الصدد، من جهة الاعتبار الشرعي لها، ومن جهة ما طرأ عليها من اختزال في التداول التاريخي والإعمال الفكري والسياسي؛ نقدا لدعاوى التضييق واستنساخ للتجارب بدل استلهامها، وتذكيرا بمنطق السنن والقيم ودورها الحاسم في النقض والبناء الحضاري والعمراني.
التعليقات