حوارات

د. سعيد شبار: كثير من أشكال التقابل بين المفاهيم هي صناعة تاريخية استقرت عندنا مسلمات نهائية

يجيب الدكتور سعيد شبار في هذا الحوار عن بعض المقولات والشعارات المتداولة في واقعنا المعاصر وتأثيرها على الفكر والسلوك، مثل؛ “الإسلام دين ودولة”، و”الإسلام هو الحل” “خلافة الله على أرضه” ، ويبرز أشكال التقابل بين المفاهيم ، والتي هي صناعة تاريخية استقرت مسلمات نهائية، مثل ثنائية (العقل والنقل) و (الحكمة والشريعة) و (العلم والدين) و (الدين والدولة) ومثلها (الأصالة والمعاصرة) و (القديم والحديث) و (الإسلام والغرب).

جواب س :1

مقولة “الإسلام دين ودولة” كثرت استعمالاتها إيجابا وسلبا، لذا فهي صحيحة من جهة وغير صحيحة من جهة أخرى.. صحيحة إذا أعدنا تحرير بنية المفهومين من كل أشكال الدخل والتقليد والنمطية.. فحررنا من جهة، مفهوم الدين على مستوى الفكر والتمثل، من كل مظاهر الانغلاق والجمود والتقليد والتكرار بجعله قادرا على استيعاب التحولات ومواكبة التحديات. أي أن يكون راهنا ومعاصرا بتفعيل آليات الاجتهاد والتجديد فيه، وإذا قصدنا بها اشتمال الأصول المؤسسة عل كليات ومبادئ في هذا الاتجاه وكون الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده قاموا بوظائف ومهام سياسية.  وحررنا كذلك مفهوم الدولة من التفسير النمطي الواحدي الذي يتخذ له نموذجا واحدا يقلده دون القدرة على صوغ نموذج يلبي الحاجات المحلية ويعكس خياراتها.. بحيث يكون الدين مرجع الدولة يزودها بالقيم والشعور والانتماء وتكون الدولة اجتهادا مطردا في بناء نظمها وقوانينها.

وهي مقولة غير صحيحة، ولا يمكن أن تنتج أو تثمر شيئا على مستوى الواقع غير الإحباط والأزمات وتشكيل ذهنيات مغتربة عن زمانها ومكانها، عندما يقع التمسك بنمط أو نموذج واعتباره نهائيا قابلا للنسخ والتكرار في كل زمان ومكان ولو كان هذا النموذج نموذج الخلافة الراشدة أو غيره من محطات الحكم الإسلامي. فالأصل استيعاب فلسفة التجربة واستلهام أسسها العلمية والمهنجية المجردة.. أما نموذج الدولة الدينية المغلقة التي لا اجتهاد فيها، فهذا لم يأت به الدين نفسه. لذا اكتفى بكليات وأصول في بناء الدولة وترك الباقي للاجتهاد. والتجارب التي حاولت النسخ الحرفي انتهت إلى الانسداد ومصادمة الفطرة والعقل والواقع، و تعطيل مقاصد الدين نفسه وغاياته. وكذلك القول في استنتاج نموذج ليبرالي أو اشتراكي ناجز وجاهز. فتمة إذن بناء من خلال علاقة تفاعلية مع الاحتفاظ بهامش كبير هو أساس يسمح للعقل بالاجتهاد والتجديد والتكييف المستمر.. وبهذا المعنى المستوعب والمنفتح للدين على مختلف التجارب والخبرات البشرية والحريص على الغنى والتعدد لا يمكنه إلا أن يكون داعما لحركة المجتمع المدني والمؤسسات الديمقراطية.

ج س : 2

“خلافة الله على أرضه” مقولة تاريخية كغيرها من المقولات التاريخية التي نمت داخل الأمة أو استعيرت من خارجها. فالله تعالى استخلف الناس جميعا وليس طائفة منهم “إني جاعل في الأرض خليفة” والتكليف هو للجميع. وبعد انتهاء النبوة انتهت العصمة للبشر وتسلم مشعل النور المنبثق عن الوحي العقل مناط التكليف.. وتجربة الخلافة في التاريخ الإسلامي (على علاتها) تختلف عن مثيلتها في التاريخ الغربي. فالفكر الكنسي اللاهوتي أسند العصمة للبابا وجعله ظلا (خليفة) لله في أرضه يستمد منه مباشرة، هذا فضلا عن امتيازات وهيمنة رجال الدين على الإقطاع والسياسة والفكر والفن وكل شيء، لهذا كانت الثورة والتمرد على معطيات هذه الحقبة. لكن الذي ظهر عندنا وضع آخر مختلف وإن كان لا يبتعد من حيث الرؤية عن سابقه، كان هذا عند الخوارج وعند بعض الجماعات المعاصرة للأسف. فالخطأ يكمن عندما تتصور جماعة ما أن ممارستها “السياسية” فعل ديني مقدس غير قابل للنقد والمراجعة فتجعل لنفسها عصمة هي ليست لها، وتعتبر من هو خارج دائرتها غير معنى بالدين ولا التفكير فيه فتجرم وتفسق وتكفر. وهذا من أفدح الأخطاء فدين جاء للناس أجمعين لا يمكن أن تصادره جماعة ما. فتجعل فهمها هو الفهم وتطبيقها هو التطبيق. لهذا فخليفة الله على أرضه حقا هو من يتحقق بالتوحيد ويحقق العدل والحرية والسلم والأمن والعلم.. فيها وكلها من مقتضيات مفهوم “الاستخلاف” الكلي الذي لم تتبلور فيه فلسفة ولا معرفة توضحه في أبعاده المختلفة .

ج س : 3

“الإسلام هو الحل” شعار مجرد شعار كسابقه، عند كثير من التنظيمات الإسلامية. وبدل الاشتغال بالشعارات والانكباب على صكها وجعلها كل شيء، يجب التوجه إلى الاشتغال بالمضامين أي الانخراط في إنتاج وبناء الحلول لمشكلات ومعضلات الفقر والأمية والبطالة والتعليم وإصلاح الفكر وتأهيل الثقافة وما إليها.، وهذا مدخل التصالح مع المجتمع. وأعتقد أن هناك وعيا تغييريا كبيرا لدى بعض هذه التنظيمات لكن لم يفسح لها مجال التعبير ولا التغير.

أما فيما يخص المجتمع المغربي فهو صاحب تجربة فريدة واستثنائية في تاريخه القديم كما في تاريخه الحديث والمعاصر، جعلته وما تزال بمنأى عن كثير من المشكلات والصراعات. فوحدته العقدية والمذهبية وخياراته الوطنية عناصر أساسية في استقراره السياسي والاجتماعي، فهو نموذج متميز بخصوصيته الغنية المستعصية ، على العموم، على مظاهر الاختراق. وعلى العكس نجد كثيرا من التجارب التي كانت سابقة عليه في تدبير شأنها الديني تستفيد منه الآن.

ج س : 4

الصراع بين “الدولة الدينية” و “الدولة المدنية” هو صراع مفهومي أولا، أي عندما ننطلق من منطلق المقابلة والمواجهة. وهو غالبا ما يستصحب ويستحضر نماذج تاريخية أوخارجية. لكننا عندما نتحرر من جهه من استحضار النماذج التي تهيمن على التفسير وتوجه التحليل، وننطلق من جهة أخرى من فلسفة التكامل لا التقابل، أظن أننا سنوفر وقتا للبناء المشترك.  فالدولة في التاريخ الإسلامي لم تنفك عن المرجعية أو “السلطة” الدينية، وفي الوقت نفسه هذه المرجعية لم تزعم لنفسها العصمة والقداسة بل انخرطت في مشروع الدولة (في الغالب) فكان البناء من خلالها ولم تكن الحاجة داعية إلى إقامة مثل هذا التقابل إذ كان ما هو ديني في الإسلام مدني كذلك ، حيث منح الإسلام للعقل حق الاجتهاد وللعلم حق الإبداع وضمن الحقوق وقرر الحريات… لكن اتساع دائرة الاستبداد وهيمنة الجمود والتقليد على الفكر وظهور أشكال من الغلو والتشدد باسم الدين تحول دون أشكال التحديث والتنمية المطلوبة باسم الدين نفسه، وكذا تأثير النموذج الغربي وضغوطاته، كل ذلك دفع في اتجاه إقامة هذا التقابل، فتحول إلى “مسلمة” و “شعار” لايختلف معرفيا عن الشعارات السابقة.

ج س: 5

     للإصلاح فلسفة شمولية ينبغي إدراكها في شموليتها وفي علائقها المختلفة، والإصلاح جهد بشري للتلاؤم والتواؤم بين الناس فيما بينهم وبينهم وبين الكون والطبيعة من حولهم.

فعلا لقد دخل الفكر الإسلامي دوامة من الجمود والتقليد لم يستطع الانفكاك عنها إلى الآن، لكن بموازاة ذلك كانت هناك حركات تجديدية واجتهادية تحاول رد الاعتبار للقيم المعطلة في الدين لم يكتب لها هي بدورها تصحيح المسار أو التأثير فيه بما يغيره. واعتقد أن إشاعة حرية الفكر والتعبير وإبداء الرأي والرأي المخالف أمر كفيل بإحداث التراكم المطلوب لإحداث التغيير والإصلاح المطلوب. وهذا دور المؤسسات الدينية في توجيه وترشيد مثل هذا الحوار. فإذا كان أمرا طبيعيا أن تواجه أطروحة علي عبد الرزاق من قبل الأزهر لأنها تخالف أصول وفروع التفكير فيه ، فإن ما ليس طبيعيا أن تستعصي هذه المؤسسة في وقتها عن التغيير والإصلاح الذي أراده محمد عبده بما يجعل منها مؤسسة مدنية كذلك، وهو ما لم تتفطن له إلا بعد عقود من ذلك التاريخ.  تحتاج هذه المؤسسات إذن إلى تأهيل فكري  ومعرفي قادر على استيعاب الخلاف وإدارته وتوجيهه بالتي هي أحسن إلى التكامل من أجل البناء وليس التقابل من أجل الهدم والاحتراب.

ج س:6 و  7

“فصل الدين عن الدولة” شعار كذلك لا يختلف عن سابقيه والمشكلة فيه ابتداء، مفهومية كذلك. وإن كنا تكلمنا عن الدين والدولة سابقا، فما المراد “بالفصل” هنا، فإن كان تحديدا لصلاحيات وتمييزا بين وظائف ومهام فهذا شيء، وإن كان إحداثا لقطيعة تامة يحاط فيه كل كيان بسياج فهذا شيء آخر. ولهذا فكما ينبغي انتقاد وفحص المقولات (الشعارات)  التي تفد عليها من تاريخنا وتراثنا باعتبارها غير وظيفية ولا إجرائية في ظرفنا الراهن، فكذلك الشأن بالنسبة للمقولات (الشعارات) التي تفد علينا من غيرنا. فكثير من أشكال التقابل للأسف بين المفاهيم هي صناعة تاريخية استقرت عندنا مسلمات نهائية، مثل ثنائية (العقل والنقل) و (الحكمة والشريعة) و (العلم والدين) و (الدين والدولة) ومثلها (الأصالة والمعاصرة) و (القديم والحديث) و (الإسلام والغرب)..، حيث يكون التحيز والاحتماء بأحد طرفي الثنائية ضد الآخر.

وهذا تخريب أيما تخريب للثقافة والفكر وإشعال لنيران تلتهم مقومات وإمكانات البناء فيهما. لأنه ليس حلا التسليم لطرف في الثنائية دون الآخر، إذ لا وجود ولا اعتدال ولا توازن ولا بناء إلا بهما، وإلا كنا أمام ظواهر ثقافية غريبة لانعدم أمثلة عنها.

فالمعادلة الصعبة  هي في الجمع والتكامل لا في التفريق والتقابل. وذلك يتم من خلال إزاحة الأغطية والأغشية التاريخية لصقل كل مفهوم من جديد حتى تنكشف شرايين وقنوات تواصله مع غيره. فالعلمنة نفسها  لم تفترض هذه المعارضة والتقابل بقدر ما  نحت إلى التمييز وتحديد الوظائف. وعمليات الاسترجاع الديني (المسيس) في محض نشأتها الأول قائمة على قدم وساق. فجعل الدين شأنا فرديا خاصا لا يستقيم، لأن الفرد هو نفسه من يبني اجتماعه وعمرانه. فلا يمكن أن يكون تزوده القيمي الفردي مخالفا للاجتماعي، وإلا عاش تناقضات جوهرية مضرة به كفرد وكمجتمع، وهذا ما يلاحظ في نزعات الغلو والتطرف باسم الدين أو باسم المدنية والحرية.

تبقى الإشارة أخيرا إلى أن التشريع وفلسفة التشريع في القرآن والسنة غيرهما في الديانات الأخرى (وإن كانت هناك  مواطن اتفاق وتداخل وتكامل كثيرة). ففيهما حرص على رفض كل مظاهر الترهب والهروب من الدنيا، وحرص كذلك على رفض العكس.أي التعلق بعالم الأشياء دون غايات ومقاصد وجودية. فحالة التوازن في هذا التشريع  تقام بالجمع بين الاعمار الدنيوي الكوني، وبين مقصد وغاية الخلق التي يمنحها الدين. ويقينا هناك في فكرنا المعاصر اختلال كبير على مستوى بنية التفكير الديني، إذ هي عاجزة بفعل ارتهانها التاريخي (السلبي) الثقيل، وبفعل استلابها للنماذج الغريبة عن بلورة فكر ومعرفة.. وقل فلسفة وعلوم قادرة على الانخراط في ساحة التدافع والتعارف الكوني بشروطه وتحدياته المختلفة. هي كذلك مفتقرة بشكل كبير إلى رؤية فلسفية كلية تعيد فتح الأنساق المعرفية المغلقة في التفكير الديني والتي تسمح لها بإمكانات هائلة في التنمية والتحديث والتواصل، وتجنبها إلى حدود كبيرة آفات الصراع والتصادم مع المكونات المختلفة وتجعل دوائر التفكير متقاربة ومتكاملة. وهو ما ينبغي أن تسعى إليه كذلك بعض مؤسسات المجتمع المدني التي تجعل بينها وبين هذا التواصل مسافة بسبب تمثيلات سيئة تجعلها معيارا لتعميم بعض الأحكام.

التعليقات

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *