حوارات

إدغار موران: حول جائحة الكورونا والعزل الصحي والعلم والعولمة ومستقبل الإنسانية

ترجمة: صالح محفوظي، من تونس.

ولد سنة 1921، معارض قديم، عالم اجتماع وفيلسوف، مفكر متعدد الابعاد في نفس الوقت الذي رفض فيه الانضباط لأي تيار أو موقف، حاصل عل 34 دكتوراه شرفية من عديد الجامعات حول العالم، ادغار موران، المنعزل مثل كل الفرنسيين في شقته في مونبيليي رفقة زوجته عالمة الاجتماع صباح عبد السلام، في جادة جون جاك روسو يقيم صاحب المؤلف الأخير الصادر عن دار فايار سنة 2019 ” الذكريات التي تأتي لملاقاتي” مؤلف من 700 صفحة استعاد فيه المفكر عمق تجربته ولقاءاته الاعمق والأكثر تأثيرا في حياته.

ـ هل كانت جائحة الكورونا متوقعة؟

ـ كل الدراسات المستقبلية للقرن العشرين والتي ترسم ما سياتي انطلاقا من معطيات الحاضر اهتزّت قيمتها، ما زلنا نتنبأ بما سيأتي سنة 2025 و 2050 في حين نعجز عن فهم 2020. إن وعينا لم يستوعب الطفرات غير المتوقعة في حركة التاريخ، والحقيقة أن أهم ما يجب توقعه هو غير المتوقع، ومن هنا كانت مسلمتي الشهيرة ” انتظر نفسك في غير المنتظر”.

لقد كنت من الأقلية التي توقعت سلسلة من الكوارث من بينها الاندفاع غير المراقب للعولمة الاقتصاديةـ التقنية ومن بينها كوارث دمار البيئة ودمار المجتمعات، ولكنني لم أتوقع كارثة حيوية بهذا الحجم. سأستعيد هنا أحد الذين كان لهم سبق توقّع هذه الكارثة أو على الأفل ما يشبهها وأعني بيل غايتس الذي أعلن في ندوة بتاريخ أفريل 2012 أن الخطر الذي يتهدد البشرية لن يكون نوويا بل سيكون تهديدا للصحة. لقد رأى في وباء الإيبولاـ الذي أمكن التحكم فيه بسرعة ولكن بضربة حظ ـ رأى فيه إعلانا عن خطر كوني لفيروس ما، له قدرة عالية على الانتقال والعدوى، ولقد عرض بيل غايتس التدابير الضرورية لمواجهة هذا الفيروس وأوصى بالاستعدادات الطبية الضرورية. لكن أحدا لم يأخذ بعين الاعتبار هذا التحذير في الولايات المتحدة الامريكية أو في غيرها من دول العالم، وذلك فقط لأن البذخ العقلي وسلطة العادة لا يقبلان الرسائل المربكة والمرعبة.

ـ كيف تفسرون عدم الاستعداد لهذه الجائحة في بلد مثل فرنسا؟

ـ في دول عديدة وفرنسا واحدة منها، الاستراتيجية الاقتصادية للتدفق الدائم للسلع التي استبدلت بها استراتيجية التخزين، هي التي جعلت جهازنا الصحي مفتقرا لأجهزة التوقي كالكمامات، وأدوات الاختبار والتحليل، وأجهزة التنفس وغيرها. هذا إضافة إلى التوجه الليبرالي الذي ذهب إلى سلعنة الخدمات الصحية والتقليص من الإمكانيات المتاحة للمؤسسات الاستشفائية لمواجهة الجوائح.

ـ أي نوع من اللامتوقع تضعنا أمامه هذه الازمة؟

ـ تضعنا هذه الجائحة أمام أشكال متنوعة من عدم اليقين: نحن لا نعلم شيئا عن مصدر الفيروس، سوق الحيوانات بمدينة يوهان أو مختبر مجاور، ولا علم لنا بالتحولات التي حدثت أو ستحدث على هذا الفيروس خلال انتشاره، ونحن لا نعلم متى تتراجع الجائحة وما إذا كان هذا الفيروس سيظل قاتلا. نحن لا نعلم أيضا إلى أي حد بأي شكل سيضعنا الإغلاق الصحي أمام موانع وحواجز و أنواع من التقسيم والتصنيف. لا علم لنا أيضا كيف ستكون التداعيات السياسية والاقتصادية، الوطنية والعالمية لهذه الموانع التي فرضها هذا الإغلاق.

نحن لا نعلم أيضا ما إذا كنا ننتظر من هذه التدابير الأسوء أم الأفضل، أو ربما خليط من السيئ والحسن. إننا إذن أمام أشكال جديدة ومتنوعة من عدم اليقين.

 ـ ما علاقة هذه الازمة الصحية الكوكبية بمقولة الفكر المركب التي تدعون لها؟

ـ تتواتر المعارف في عصرنا وتتتالى بشكل متسارع الأمر الذي يجعلنا دائما أمام صعوبة الإلمام بهذه المعارف أو التعامل معها، وهي تضعنا أمام تحدي التعقيد: كيف نوجه ونختار وننظم هذه المعارف بطريقة منسجمة، كيف نربط بين معارفنا وكيف نحافظ  فيها على جانب عدم اليقين. بالنسبة لي، يكشف هذا الأمر عن قصور طرائق تفكيرنا التي تقسّم ما لا ينقسم، والتي تجمع في عنصر واحد ما لا يكون إلّا كلّا يلتقي فيه الواحد والمتعدد.

إنه لأمر تراجيدي أن تسيطر على حضارتنا طريقة تفكير تقسيمية اختزالية، وأن تتحكّم هذه الطريقة في القرارات السياسية والاقتصادية، لقد أدى قصور تفكيرنا إلى أخطاء في التشخيص وفي التوقع وفي اتخاذ القرار. أضيف أن هاجس المردودية عند مسؤولينا قد أدى إلى اقتصاديات مذنبة ومتهمة ومثالها وضع مؤسساتنا الاستشفائية وغياب أدوات الوقاية.

من وجهة نظري إذن، القصور الواضح في طريقة تفكرينا يضاف إليه الاندفاع الجامح نحو الربح، هي العناصر المسؤولة عن كوارث لا حصر لها ومنها هذه الجائحة التي هيمنت على كل العالم منذ فيفري 2020.

ـ نحن أمام وجهة نظر توحيدية في مجال العلم من جهة، ولكننا أمام في نفس الوقت أمام وجهات نظر مختلفة ومتعارضة حول المستويات الوبائية و الآليات العلاجية وغيرها، هل أصبح المجال العلمي ـ الطبي ـ البيئي ساحة حرب؟

ـ إنه  من الضروري أن نستدعي العلم لمواجهة هذه الجائحة، لقد اطمأن الكثير من الفرنسيين لما قاله الأستاذ راؤول عن استعمال الكلوروكين كعلاج، ولكنهم وجدوا أنفسهم في نفس الوقت أمام وجهات نظر مخالفة ومعارضة. بعض المواطنين الأكثر تعلما تبيّن لهم أن لبعض كبار العلماء علاقات ومصالح مع مخابر الصناعات الدوائية المدعومة بلوبيات أجهزة الحكم ووسائل الاعلام، وهي قوى قادرة على تغذية حملات لشيطنة المواقف المعارضة.

نستعيد هنا الأستاذ مونتانيي الذي وقف في وجه كهنة العلم ورعاته الرسميين، الأمر الذي مكّنه بمعية عدد قليل من الأطباء من اكتشاف فيروس مرض فقدان المناعة المكتسب. إنها المناسبة التي يجب أن نعترف فيها أن العلم ليس لائحة من المعارف النهائية، بل إن البحوث العلمية حركة تقترب من الحقيقة بعد كل كشف جديد. إن النظريات العلمية التي نسلّم بصحتها هي مجرد دغمائيات، وفي المقابل ” مختلفون ” مثل باستور وانشتاين مرورا بداروين وواطسون وكريك ومكتشفو البرنامج الوراثي للحمض النووي، هؤلاء ” المختلفون ” هم وحدهم اللذين طوروا العلم، إن الخلافات النظرية ليست طفيليات بل هي العناصر الضرورية لتطور العلم.

إضافة إلى ما سبق، ولأنّ ثمّة دائما جوانب نجهلها، فإنّ كلّ بحث يتطور بالتجارب وبالأخطاء ولكن أيضا بالتجديدات التي نعتبرها انحرافات غير مفهومة بل مرفوضة أيضا، تلك هي المغامرة العلاجية ضد هذا الفيروس، العلاج الذي قد نجده في غير الموضع الذي ننتظره فيه.

إن العلم مهدد بالتخصص المعمق والشامل، هذا التخصص القائم على تقسيم المعارف والفصل بينها بدل التحاور حولها، لقد كانت للباحثين المتحدين الريادة وهم اللذين استطاعوا مواجهة الجائحة بتنسيق وحوار مازال يتوسع بين أطباء العالم بمختلف اختصاصاتهم. إن العلم يحيا بالحوار وكل رقابة على العلم تمنعه من تحقيق نتائجه. لكن يجب أن نقبل في نفس الوقت أنه كما للعلم عظمته فإنّ له اخفاقاته.

ـ إلى أي حد يمكن الاستفادة من الأزمة؟

ـ في محاولتي ” حول الأزمة ” (الصادرة عن دار فلاماريون) أردت أن أؤكد أن كل أزمة، في ظل الارتباك وفقدان اليقين اللذان تخلقهما، تتمظهر في اضطراب قواعد عمل نظام معين، هذا النظام الذي يسعى حفاظا على توازنه إلى منع كل أشكال الانحراف ( التغذية السلبية المرتدة )، لكنّ هذه الانحرافات تصبح توجهات فاعلة إذا لم يتم صدها، وإذا ازدادت فاعليتها يمكن أن تصبح قادرة على تهديد النظام وتحطيم قواعده.

في الأنظمة الحية، وخاصة الاجتماعية منها، تطور الانحرافات يجعل منها اتجاهات فاعلة: تقهقرا أو تقدما وربما ثورة. وعليه يمكننا القول أن الأزمة في مجتمع ما تتحرك ضمن مسارين متعارضين: الأول يحفّز الخيال والتوجه الخلاق في البحث عن حلول مستحدثة، أما الثاني فله وجهان، إما أن يكون انكفاء على حالة استقرار سابقة، وإما أن يكون انتظارا لما ستجود به العناية الإلاهية على اعتبار أن أفعالنا أفعال مذنبين ارتكبوا معاص كانت هذه الأزمة نتيجة لها، وقد يكون المذنب متخيلا، كبش فداء يجب التضحية به.

في الواقع، إن أفكارا كثيرة مارقة ومهمّشة تستعاد وتجد لها موقعا فتنتشر في كل مكان: عودة إلى فكرة السيادة، دولة العناية، الدفاع عن الخدمات العمومية ضد الخوصصة، العودة إلى الثقافة المحلية، مواجهة العولمة، مواجهة الليبرالية الجديدة، الحاجة إلى سياسات جديدة. وتجد هذه الأفكار التعبير عنها في الواقع إذ رأينا في مواجهة نقص الخدمات العمومية، انتشار التوجهات التضامنية من قبيل إنتاج الأقنعة الواقية في مصانع خاصة، تجمع منتجين محليين من أجل سلع أقرب وأقل كلفة، التسليم المجاني للاحتياجات، التعاون بين الجيران، الوجبات المجانية لفاقدي المأوى، رعاية الأطفال. إضافة إلى ذلك يحفّز الإغلاق الصحي قدرة الناس على الانتظام الآلي لتخفيف الضغط بالمطالعة أو الموسيقى أو الأفلام والتعويض عن حرية التنقل، لقد حفزت الأزمة قدرات الأفراد الإبداعية.

ـ هل معنى ذلك أننا أمام حالة وعي حقيقية على الصعيد الكوكبي؟

ـ أرجو أن تعلّمنا هذه الجائحة الاستثنائية والقاتلة التي نعيشها أننا لسنا محمولين داخل تيار المغامرة الإنسانية الهائلة فقط ، بل نعيش أيضا في عالم فاقد لليقين ومأساوي. قد يقلّص موقفنا الرافض للجموح الليبرالي الذي يرى في التنافس الحر والتطور الاقتصادي حلّا للمعضلات الاجتماعية من مأساوية التاريخ البشري، وربما يزيد من مأساويته.

إن هذه التوجهات مابعد ـ الإنسانية ترفع إلى القمة أسطورة الضرورة التاريخية للتطور، وأسطورة قدرة الانسان على تحقيق خلوده، وأن الذكاء الصناعي سيكون أداته لمراقبة كل ذلك.

لكن في الحقيقة إننا لاعبون/ لعب، مالكون/ متملكون، أقوياء/ مهملون، وإذا كان بإمكاننا أن نؤجل الموت بإطالة الشيخوخة، فلن يكون بإمكاننا في المقابل أن نتجنّب الحوادث المميتة، ولن نكون قادرين أبدا على مواجهة هذه الميكروبات والفيروسات التي تتغير تلقائيا لتسخر من العلاجات والمضادات الحيوية ومضادات الفيروسات والتلاقيح.

ـ ألم تجعل هذه الجائحة الانكماش المحلّي والانغلاق الجيوبوليتيكي يطفو إلى السّطح من جديد؟

ـ هذه الجائحة العالمية فجّرت عندنا ـ بل عمّقت بشكل خطير ـ أزمة صحية حتّمت انغلاقا خنق الاقتصاد وحوّل نمط عيش الناس المنفتح على الخارج إلى ارتداد إلى الداخل. وضع جعل العولمة في أزمة خانقة. لقد خلقت هذه العولمة أشكالا من الارتباط المتبادل ولكنه ارتباط لا موقع فيه للتضامن بين البشر، والأسوأ أنها أثارت ـ في شكل ردود أفعال ـ أشكال انعزال عرقي وديني وقومي مثلت سمة العشرية الأولى من هذا القرن. وفي غياب مؤسسات دولية قادرة على حماية النشاطات التضامنية بين الدول، فقد انقلبت الدول القومية على بعضها البعض. اختطفت كما تعلمون جمهورية التشيك شحنة كمّامات واقية في طريقها إلى إيطاليا، وحولت الولايات المتحدة الأمريكية هي الأخرى وجهة شحنة موجهة إلى فرنسا. لقد فجّرت هذه الأزمة الصحية سلسلة أزمات مترابطة: إنها أزمة تمتد من الوجودي إلى السياسي مرورا بالاقتصاد، ومن الفردي إلى الكوني مرورا بالعائلات والأقاليم والدول.

لنقل، إنّ مجرد فيروس في مدينة مجهولة في الصين قد فجّر كل هذا الاضطراب في العالم.

ـ يمكن تناول هذه الأزمة في تنوع وجوهها، إذ باعتبارها أزمة كوكبية، فإنها تضع قدر كل أفراد البشرية في علاقة لا فكاك منها بالقدر البيوـ إيكولوجي لكوكب الأرض، هي أزمة تعرّي عجز الجنس البشري عن تحقيق إنسانيته. وباعتبارها أزمة اقتصادية، فإنها تزعزع كل الدغمائيات الموجهّة للاقتصاد وتهدد مستقبلنا بمظاهر الفوضى والنقص. وباعتبارها أزمة الدولة الوطنية، فإنها تكشف الخلل في سياسة أعطت الأولوية لرأس المال على حساب العمل، وضحت بالاحتياط والوقاية من أجل مزيد من المردودية والتنافسية. وباعتبارها أزمة اجتماعية، فإنها تضع تحت ضوء ساطع أشكال التفاوت بين فقراء العالم اللذين يعيشون في مساكن ضيقة تضم الأبناء والآباء والأجداد وبين أثريائه اللذين يجدون في منتجعاتهم الريفية الرفاهية والسلامة. وباعتبارها أزمة حضارية، فإنها تدفعنا إلى الوقوف على غياب التضامن و هيمنة مظاهر التسمم الاستهلاكي التي طورتها حضارتنا، وهي بذلك تدفعنا إلى التفكير في ” سياسة الحضارة ” ( كتاب “سياسة الحضارة” مؤلف بالاشتراك مع سامي نايير، أرليار 1997 ). وباعتبارها أزمة فكرية، فإن فيها نكتشف عمق الثقب الأسود في تفكيرنا، هذا الثقب الذي منعنا من رؤية تعقيدات الواقع. وباعتبارها أزمة وجودية، فإنها تدفعنا إلى أن نتساءل حول نمط عيشنا، وحول احتياجاتنا الحقيقية، وحول تطلعاتنا التي أخفاها اغترابنا في حياتنا اليومية، كما تدفعنا إلى أن نميّز بين الترفيه الذي يخفي حقيقتنا وبين السعادة التي نغنمها في لقائنا بالأعمال الفنية الكبرى حيث نلتقي وجها لوجه حقيقة قدرنا الإنساني.

ـ ما هي ملامح هذا الانفجار العالمي؟

والأهم من كل ذلك، يجب على هذه الأزمة أن تفتح أذهاننا التي طالما اكتفت بالمباشر والثانوي والتافه، أن تفتحها على ما هو ضروري: الحب والصداقة كأصل تنبثق منه فرديتنا، انبثاقا لا يقف عند المستوى الفردي بل يتجه بالأنا نحو أشكال الوحدة والتضامن للنّحن التي تجمعنا، من أجل قدر إنساني مشترك يمثّل كل واحد منّا جزء منه.

ما أريد قوله إجمالا، هو أنه إذا كان قدرنا في هذه الأزمة أن نعيش هذا الإغلاق العام جسديا فمنه يجب أن يتغذّى التقارب الذهني للبشر.

 ـ كيف ترون الإغلاق؟ وكيف تعيشونه؟

ـ إن تجربة العزل المنزلي التي تفرض على مجموعة بشرية هي في الحقيقة تجربة فريدة، أستعيد هنا تجربة العزل في الغيتو في فرصوفيا الذي كان يسمح فيه بالتجول، ولكن الفرق بين التجربتين هو أن العزل في الغيتو يعد الناس للموت فيما يعدهم عزلهم اليوم للمحافظة على حياتهم.

لقد تحملت تجربة العزل في ظروف جيدة، فلي شقة في الطابق الأرضي مع حديقة أستطيع الاستمتاع فيها بأشعة الشمس وباستقبال الربيع، ولي زوجة تعتني بي ولي جيران طيبون يقدمون يد المساعدة، كما أني قادر على الاتصال بأقاربي وأحبتي وأصدقائي، وقادر على الالتقاء بالصحافة لتقديم تصوري للوضع وخاصة عبر السكايب. لكنني أعلم أن كثيرين غيري يعيشون في مساكن ضيقة ومكتظة سيضيقون ذرعا بهذا الإغلاق، وأن الضحايا الحقيقيين لهذا الوضع هم من لا مأوى لهم.

 ـ كيف يمكن أن تكون آثار الإغلاق المطول؟

ـ أنا أعتبر أن العزل الصحي حين تطول مدته يصبح بمثابة سجن: فالأفلام لا تستطيع تعويض الخروج إلى السينما، والأجهزة اللوحية لا تعوّض زيارة المكتبات العامة، والسكايب لا يمكن أن يكون بديلا عن اللقاء الحميمي بالآخر، والأكلات المنزلية ـ مهما كانت صحية ولذيذة ـ لا تعوض رغبتنا في زيارة المطاعم، والأفلام الوثائقية لن تكون البديل عن الاستمتاع بالمناظر الطبيعية والمدن والمتاحف.

إن اقتصارنا على الضروريات يغذّي تعطّشنا إلى الكماليات. وأرجو أن تعلمنا هذه التجربة أن نتجنّب الاندفاع الاستهلاكي المحموم الذي تحرّكه الإغراءات الاشهارية، لنضمن الحصول على تغذية صحية ومواد قادرة على الصمود معنا بدلا مما تعودنا عليه من إشباع طارئ وفي أغلب الأحيان غير ضروري.

ـ كيف سيكون في تقديركم ما يمكن أن نطلق عليه اسم ” عالم الما بعد “؟

ـ لننظر أولا ما سيعلق في أذهاننا نحن كمواطنين، وما ذا سيعلق في أذهان السلطات الحاكمة من تجربة الاغلاق العام هذه؟ هل سننسى؟ أو هل سنجعل مما حدث مثلما تعوّدنا مجرد ذكرى فلكلورية في تاريخ شعب ما؟

المؤكد عندي أن هذا الانتشار لكل ما هو رقمي والذي ضخّمه الاغلاق العام من قبيل العمل عن بعد والندوات عن بعد والسكايب والتعويل المفرط على الإنترنت، كل ذلك سيستمر ويتطور بوجهيه السلبي والايجابي.

لكن لنذهب إلى الأهم، هل سيكون الخروج من الاغلاق نهاية الأزمة الكونية أم تعميقا لها؟ انفجارا أم تراجعا؟ هل سنكون أمام أزمة اقتصادية عالمية وربما أزمة غذائية عالمية؟ هل سنكون أمام استمرار العولمة أم انكماشها؟ كيف سيكون مستقبل هذه العولمة؟ هل ستستعيد زمام الأمور بعد اهتزازها؟ هل ستستمر المواجهة بين القوى العظمى في العالم؟ هل ستستمر النزاعات المسلحة التي قلصت الجائحة من حدتها؟ هل سيقوم توجه عالمي من أجل التعاون والتقارب؟ هل ستحصل تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية مثلما حصل بعد الحرب العالمية الثانية؟ هل سيستمر هذا المد التضامني الذي أيقظه الحجر الصحي لا فقط مع الأطباء والممرضين بل مع كل الذين تكفلوا بخدمة المجتمع زمن الاغلاق العام من قبيل جامعي القمامة ومزودي السلع التموينية والخبّازين، هؤلاء اللذين ما كان بإمكاننا بدونهم أن نتحمّل وطأة هذه الأزمة؟ هل سيستعيد الخارجون من الاغلاق النسق المتسارع والأناني للاستهلاك أم سيكون ثمة توجه نحو حياة بسيطة وسهلة ونحو حضارة تمجّد شاعرية الحياة وتترعرع فيها ” الأنا ” داخل ” النحن “؟

ليس بإمكاننا أن نعرف ما إذا كان ما بعد الإغلاق سيعطي للأفكار المجددة في السياسة قيمتها وإمكان حضورها، أم أن هذا النظام القائم والمتداعي سيستعيد توازنه. بإمكاننا أن نخشى هذا التدهور المعمم الذي عشناه في العقدين الأولين من هذا القرن في مستويات أزمة الديمقراطية والفساد المعولم والاندفاعات العرقية والتمييز العنصري. كل هذا التدهور ما زال يحتد ما لم تتم مواجهته بمسار سياسي ـ بيئي ـ اقتصادي ـ اجتماعي، توجهه نزعة إنسانية ثورية تجديدبة، لا أتحدث عن مراجعة ميزانيات وحسابات مالية بل أتحدث عن مراجعات حضارية واجتماعية عميقة. إن توجّها من هذا القبيل ستكون قوامه العوامل المتعارضة: العولمة من أجل أشكال التعاون بين الأمم والشعوب ومواجهة العولمة من أجل استقلالية حياتية وصحية، النمو من أجل اقتصاد الضرورات الحياتية والمستدامة والفلاحة البيولوجية والضيعات التقليدية والاعتراض على النمو للتصدي لاقتصاد التافه والوهمي والظرفي.

 ـ أنتم أعرف منا بالأسئلة الكانطية: ماذا يمكنني أن أعرف؟ وماذا يجب علي أن أفعل؟ وما ذا يجوز لي أن آمل؟ وما الإنسان؟ هذه الأسئلة التي كانت ولا تزال الأسئلة الفعلية في حياتك. ما هو الموقف الايتيقي الذي يجب الاستناد اليه في مواجهة اللامتوقع؟

ـ زمن ما بعد الجائحة سيكون زمن مغامرة يغيب فيه اليقين تتطور فيها قوى الخير والشر، لكن قوى الخير تظل  أضعف وأقل حظا. لكن لنعلم أن الشر ليس يقينيا، وأن اللامتوقع يمكن أن يتحقق، وأنه في الحرب المستمرة بين العدوين الأبديين إيروس وتاناتوس يكون الحل الأسلم في الانحياز للإيروس.

ـ والدتكم، ليتا، أصيبت بالأنفلونزا الإسبانية، فأعطتكم صدمة ما قبل الولادة قوّة للحياة، قدرة عجيبة على مقاومة الموت، هل تحسّون دائما بهذا الزخم الحيوي في خضم هذه الأزمة العالمية؟

ـ الأنفلونزا الإسبانية أثّرت على قلب والدتي وأدّت إلى منعها من الإنجاب، فكانت عرضة للإجهاض مرتين، فشل الإجهاض الثاني وولد رضيع بين الحياة والموت، مختنق بالحبل السري. يمكن أن تكون هذه بداية قوة المقاومة التي استمرت معي طوال حياتي، ولكنني مدرك أنّني موجود بفضل مساعدة الآخرين، الطبيب الذي استمر في صفعي لأكثر من نصف ساعة لأطلق صرختي الأولى، الحظ زمن المقاومة، المستشفيات لمعالجة أمراض الكبد والسل وغيرها، وبفضل صباح، زوجتي ورفيقة دربي. أقر أن الزخم الحيوي لم يفارقني بل ازداد قوة خلال هذه الأزمة. في الحقيقة أقول أنّني أجد في كل أزمة نوعا من التحفيز، ولكن لأن أزمة اليوم هي الأكثر قوة فإنّها تحفزني بطريقة أقوى.

لقراءة الحوار من المصدر يرجى الضغط هنا

التعليقات

اظهر المزيد

ذ. صالح محفوظي

باحث تونسي، يعمل حالياً أستاذاً للتعليم الثانوي، حاصل على ماجستير البحث في الفلسفة 2019م، وخريج كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، تونس، يعدُ أطروحة الدكتوراه حول “التأويل الرمزي في الفكر القبالي اليهودي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *