مستويات التأصيل القرآني للتنوع الثقافي
الملخص
من المسلم به أن النصوص الشرعية المكتوبة والمدونة بين الدفتين لا تنطق، وإنما ينطق بها الرجال، ولكل زمان ومكان رجالاته، مختلفين باختلاف طبائعهم الفكرية والثقافية. فالإنسان في زمن ما، ومكان ما، هو القارئ الحر لهذه النصوص، ومن خلال قراءاته وتأويلاته تصبح النصوص حية وحاضرة وواقعية وسط مجتمع ما؛ ثقافيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، لذلك نحن المسلمون نؤمن بأن الشريعة المحمدية استطاعت أن تواجه المشكلات والتطورات الاجتماعية والثقافية المختلفة دون أن تتخلى عن شخصيتها المتميزة أو تحتاج إلى عناصر قانونية أخرى لا تتفق معها في المنهج أو الغاية.
لكن ذلك استلزم جهودا متتابعة في عالم الواقع، قام بها علماء الأمة الإسلامية في كل عصر للملاءمة بين النصوص الدينية التي لا يستطيع المسلم إيمانيا إلغاءها أو نسخها، وبين الظروف التي لا يستطيع المسلم ثقافيا واجتماعيا تجاهلها، فلعل التنوع الثقافي يتجلى في مناهجهم الفكرية لبناء التعامل السلمي بين ما هو ديني وما هو واقعي ثقافي اجتماعي.
إن القرآن الكريم هو كتاب ختمت به الكتب وأنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل، فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون السماء لهداية الأرض؛ حيث إنه يخاطب كل الضمير، وخير ما يطلب منه في مجال العلم والمعرفة، أن يحث على التفكير والمراجعة وتفعيل الحوار والتعايش السلمي والتسامح، ولا يتضمن حكما من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره ومحاورته مع الوقائع الكونية، أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم والمعارف حيثما استطاع؛ وكل هذا مكفول للمسلم في كتابه العزيز المقدس، كما لم يكفل قط في كتاب من كتب الأديان، فهو يجعل التفكير السليم والحوار البناء، والنظر الصحيح إلى آيات خلقه وسيلة من وسائل الإيمان بالله عز وجل.
لذلك، نرى أن هناك أدلة وقضايا منهجية فكرية علمية لدراسة هذا الكتاب العزيز لمعانيه ومقاصده وحكمه وأسراره؛ من حيث إنه يخاطب الضمائر ويجادلها ويتحداها فتحضر هذه الضمائر استراتيجيات منهجية للدراسات والاستنباط نتيجة الخبرات في القراءة الفردية/ الجماعية والتأثرات بالثقافة البيئية والقيم الاجتماعية، ثم تقوم بمراجعتها وتجديدها حسب النشاط الفكري الذي يتحاور دائما مع تغير الظروف والثقافات حتى تصبح هذه الاستراتيجيات متطورة ومتجددة فيما بعد.
ولهذا، فإن التعدّد في المخلوقات وتنوّعها سنة الله في الكون وناموسه الثابت، فلكل شيء في هذا الخلق طبيعته وخصائصه وصفاته التي تقارب غيره أحياناً، وتتنافر عنها أحيانا أخرى. وهكذا، فطبيعة الوجود في الكون أساسها التّنوّع والتّعدّد.
إن الإنسانية خلقها الله وفق هذه السنة الكونية، فاختلف البشر وتفرقوا إلى أجناس مختلفة وطبائع شتى، وكلّ من تجاهل وتجاوز أو رفض هذه السُّنة الماضية لله في خلقه، فقد ناقض الفطرة وأنكر المحسوس.
التعليقات