مقالات

علم أصول الفقه نظرات في القول بالتجديد

لقد تأكد نظريا وعمليا أن التجديد هو طابع العلوم الإسلامية عموما، والفقه خصوصا، دليل ذلك نظريا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”[1]، وشاهد ذلك عمليا: تاريخ العلم وواقع الفقه، وقد تحقق بالاستقراء أن العلم رهين الواقع في تغير أنساقه الفكرية والمعرفية والتدينية، وخاضع لتطوراته وتغيراته التاريخية، ولذلك يلزم من أي تحول داخل ماهية المجتمع وهويته أن يقع تغير في قواعد العلم، وطبيعة ما ينتج عنه من بُنى معرفية غايتها صناعة الفعل الحضاري. نتيجة ذلك هو إعادة النظر في وظيفة العلم ومتعلقاته وهما: فقه الفهم، وفقه التنزيل.

وإذا كانت وظيفة علم أصول الفقه هي بناء أسس الفهم، وقواعد فقه التنزيل فإن مساحة القول بالتجديد فيه ترتبط بدائرتين: الأولى: دائرة مقتضيات الألفاظ الشرعية بحثا عن مقاصد الخطاب، ويشمل الأمر: جدل المرجعية التشريعية في أصولها التبعية، وجدل المنهجية التشريعية، والثانية: دائرة: مقتضيات فقه التنزيل، تنزيلا يراعي مقاصد الشرع، ورفع الحرج عن الخلق.

ولقد اقتضى ذلك البدء بتحديد المرجعية العليا المؤطرة لأصول تشكيل وتفكير العقل الإسلامي، وهو ما يتعلق بمصادر الأحكام، أو المصادر المرجعية المتضمنة لأحكام الشرع المرشدة إليها، وهي إما أصلية منشئة للأحكام متضمنة لها ابتداء واستقلالا، أو تبعية كاشفة مظهرة للأحكام لا منشئة لها، تابعة للكتاب والسنة. وقد تحقق أن القرآن الكريم هو أصل الأصول “وكلية الشريعة وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه…”[2]. كما تبين أن السنة النبوية هي مدخل فهم القرآن، “فالقرآن يفهم بها وهي تفهم على ضوئه فلا تنافي بينهما ولا تضاد”[3]، ومن ثم قيل القرآن قاضٍ على السنة والسنة قاضية على القرآن. إلا أن الخلاف ظل قائما بين الأصوليين –على تفاوت النظر والاعتبار- فيما يتعلق بمآخذ الأدلة أو الأصول التشريعية الأخرى بين من أدرج بعضها تحت الاجتهاد الترجيحي، أو أصل المآل -بما هي خطط تشريعية- وبين من اعتبرها متضمنة للدليل، وآخر عدها آحاد أوجه التوظيف العقلي يرتقي النظر فيها من الإعمال الجزئي للدليل إلى الإعمال الكلي المصلحي للدليل. إلى غير ذلك مما يتنازعه جدل المنهجية التشريعية والأمر فيها متعلق بالقواعد الأصولية التي هي مجال واسع للاختلاف بين الأصوليين وظيفتها تحرير فهم النص بما يناسب المعهود العربي، ثم بما يساعد على إدراك المعنى الذي جعلت الألفاظ طريقا إليه- توليداً للدلالة سواء في صورتها الإفرادية أو التركيبية استثماراً لصور البيان المتعددة المراتب ولقواعد التفسير والتأويل، وكذا “استصحابا للعدة المنهجية الثلاثية الأركان: السياق والتعليل والمقاصد”[4]، على أساس أن النظر يتوجه إلى النصوص باعتبارها ألفاظاً لإدراك معانيها ومقاصدها التي قصدها الشارع، ليتوجه النظر بعد ذلك إلى قصد الشارع الكلي لاستنباط الحكم الشرعي منه.

على أنه يتعقب هذا الاجتهاد نظر متجدد في طبيعة النصوص والأحكام من حيث تفاوت رتبها التشريعية لتمايز ما وضعت له من عظم المصالح جلباً والمفاسد درءاً حسب ما يخدم مقاصد الدين الكبرى، سيما وأن هذه المصالح والمفاسد غير متمحضة، وإنما تؤخذ حسب النظر في الجهة الغالبة، نظرا تتفاضل فيه الأوامر في ذاتها، والمفاسد في محيطها، انتقالا إلى الموازنة بين فعل الواجبات وترك المحرمات. واشتغال العقل في كل ذلك عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة.

وإذا تحقق ما يشبه الإجماع حول انحسار الأثر القيادي الإرشادي لعلم أصول الفقه مما هو ظاهر الأثر اليوم في المنهجيات التي يشتغل بها التفكير الإسلامي مما يستوجب ضرورة الإحياء والبعث فإن الذي لا يمكن الاختلاف حوله وهو أن تجديد الإنتاج وتجديد الصياغة رهين بتجديد الاستيعاب وفق ما يقتضيه المنهج.

ولقد جسدت أطوار صناعة هذا العلم –في جميع مباحثه وقضاياه تصنيفا وتوظيفا- حقيقة التجديد الذي يسعى هذا البحث إلى بيانها.

أولا: تجليات ومظاهر التجديد في الفكر الأصولي التراثي.

  • مرتكزات الاعتبار في المحاولات المرتبطة بقضايا التجديد في الفكر الأصولي:

إن المتأمل في صنيع الإمام الشافعي في كتابه الرسالة ليدرك أن هذه الصناعة تشكل منعطفا حضاريا في تاريخ العلم، ولمسة تجديدية ترمي إلى إعادة صياغة العقل المسلم صياغة تجد أصولها المعرفية وضوابطها المنهجية في المذهبية الإسلامية، وتعيد ترتيب أولوياته العلمية والحضارية سعيا إلى “صيانة الأصول وضبط العقول في سعيها لصياغة تصوراتها لقضايا التدين في حياة الإنسان”[5] وتقنين نظم المعرفة المرتبطة بالوحي.

ولقد تأكد مع الإمام الشافعي –كما ذكرت- أن إشكال التأسيس ارتبط بصناعة ضوابط العقل الإسلامي في التعامل مع النصوص الشرعية سعيا إلى إعادة تشكيله بالأصول العقدية والمعرفية والمنهجية الكبرى التي على أساسها سيبني تصوراته الكبرى، ونظره للوجود والكون والحياة والإنسان من حوله، ويسيج النسق الثقافي الإسلامي الذي يفكر من داخله، ليتأتى له تنظيم تفكيره وترتيب أولوياته رميا إلى حفظ مقاصد الشارع في الخلق، وأسراره وحكمه في التشريع جلبا ودفعا لإقامة عمران الحياة، ولقد صدق مصطفى عبد الرزاق حينما اعتبر علم أصول الفقه في شخص الشافعي يمثل أمرين:

الأول: المنهج الإسلامي في قراءة النصوص.

والثاني: تجسيده لفلسفة الفكر الإسلامي: تجلى ذلك عنده في “وضع نظام الاستنباط الشرعي في أصول الفقه”[6] التي كانت بمثابة “ملامح لنشأة التفكير الفلسفي في الإسلام من ناحية العناية بضبط الفروع والجزئيات بقواعد كلية”[7]. وقد شكل هذا بداية قوية للتأليف العلمي المنظم في فن جمع الشافعي لأول مرة عناصره الأولى. ولذلك حق للإمام الرازي أن يقول في شأنه: “واعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسططاليس إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض.”[8].

وبه عد الشافعي أول من شيد معالم هذا المنهج الشمولي التكاملي في القراءة الذي يتكامل فيه منطق الشرع ومنطق اللغة ومنطق العقل في صناعة معرفة علمية قادرة على تهيئة الإنسان المكلف لعمارة الأرض، و”حفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل وفي الأرض”[9]. والمكلف المجتهد حريص في ذلك على الموائمة بين منهج الفهم: الذي هو فقه لقوانين النص الشرعي في مقتضياته الإفرادية والتركيبية والتداولية، ومنهج التنزيل: الذي يتحدد مدخل الإلمام به في فقه قوانين الواقع وحراكه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعلمي والتاريخي، ويجمع ذلك كله مركب فقه القواعد الشرعية التي هي القانون الكلي الضابط للفكر من الزيغ والزلل، الموثق للفهم عن الله ورسوله، فهما منبثقا لا من نظرة تجزيئية، وإنما من نظرة شمولية كلية صار لها طابع القانون المطرد، وصبغة القضايا الكلية المشكلة لوحدة الفهم ووحدة المنهج، وقد ارتقى المشتغل بها إلى اعتبار الشريعة “كالصورة السوية، لأن مأخذ الأدلة عند الراسخين إنما هو أن تؤخذ كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها المرتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر ببينها إلى ما سوى ذلك من مناحيها”[10].

ثم كان تحري معانيها وأحكامها من منطلق النظر إليها “كالإنسان الصحيح السوي، فكما أن الإنسان لا يكون إنسانا حتى يستنطق، فلا ينطق باليد وحدها ولا بالرجل وحدها، ولا بالرأس وحده، ولا باللسان وحده، بل بجملته التي سمي بها إنسانا كذلك الشريعة التي لا يطلب منها حكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها لا من دليل فيها أي دليل كان، وإن ظهر لنا لبادئ الرأي نطق ذلك الدليل فيما هو توهمي لا حقيقي”[11]، ولأجل هذا انبرى هذا العلم  ليعتبر المنهج العام للعلوم الإسلامية وللتفكير العلمي الإسلامي ولهذا عدّه ابن السمعاني “أصل الأصول وقاعدة كل العلوم”[12].

وكل عنصر من هذين –مما تقدم- ناطق بلسان حاله بمشكلة الزمان والمكان والإنسان حينها، إذ كتابه الرسالة لم يكن ترفا علميا، ولا غاية في الكتابة، ولكنه قائم بالأساس على حل مشكل الفهم، وهو ليس مشكلا افتراضيا كما كان عند غيره[13]. ولكنه مشكل قائم، والحاجة إلى حله ماسة، لأنه يتعلق بالمرجعية العقدية والفكرية والفقهية تصورا وممارسة.

وهذا المشكل عبرت عنه الكثير من النصوص الموثقة لتاريخ تدوين العلم كما هي عند ابن خلدون والشافعي أيضا.

أما ابن خلدون فقد قدم رؤية تعليلية لتدوين العلم بناء على الحاجة الاجتماعية والعلمية للأمة قال: “واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية، وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصاً فمنهم أخذ معظمها… فلما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة…احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوا فنا قائما برأسه سموه أصول الفقه”[14]. والنص واضح في بيان حاجة الأمة العلمية والتدينية إلى هذا الفن، ولذلك كان مجرد الإبداع تجديد.

وأما الشافعي –مدون هذا العلم- فإن مجرد التأمل في طبيعة الكتابة في الرسالة أسلوبا وتحليلا، ومجرد تخيل طبيعة المخاطب ينبئ عن وجود مشكل الفهم- فهم كتاب الله وسنة رسوله- ليس لدى عامة الناس فقط، بل عند النخبة، والسياق الثقافي والاجتماعي الباعث على التدوين يجلي ذلك، قال مستقرئا أساليب القرآن في البيان المراعي لمعهود العرب في النظم: “فإنما خاطب الله بكتابه العرب على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاماً ظاهرا يراد به العام الظاهر، ويستغني بأول هذا منه عن آخره، وعاما ظاهراً يراد به العام ويدخله الخاص، وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، فكل هذا موجود علمه في أول الكلام، أو وسطه أو آخره، وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول، لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله، وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها.

وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة”[15]. والنص كاشف بلسان حاله وألفاظه وسياقه التاريخي إلى الإحساس بوجود مشكل الانحراف في الفهم.

ثم يردف قائلا: “وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره، لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها”[16]. وهذا تقرير للمرجعية اللغوية في الفهم التي تتأسس على مقاصد اللسان.

ثم يضيف أيضا حاسما المرجعية التشريعية “وليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلةٌ، إلا وفي كتاب الله الدَّليل على سبيل الهُدى فيها”[17].

وظاهر خطابه يشير إلى ضرورة ضبط اللسان، ولكنه في العمق يغمز إلى حتمية إعادة صياغة العقل المسلم بما يضمن امتلاكه لمفتاح القراءة صيانة للأصول، واستيعابا للمفهوم مسيجا بالنسق المعرفي عقديا وفقهيا بما يؤهله أخيراً للإحسان في الفهم، والإتقان في معالجة قضايا التدين في حياة الإنسان. ولهذا قال الإمام الرازي: “إن الإمام الشافعي وضع للمسلمين قانونا يفكرون به مثلما يستنبطون به أيضا”.[18] وهو يرمي من خلال ذلك إلى تقريب أنظار المجتهدين سعيا لتوحيد نمط التفكير، وتنظيمه منهجيا كي لا يبلغ الخلاف درجة الزاوية المنفرجة التي تعصف بوحدة أفكارهم.

هذا الهم التوحيدي للتفكير الاجتهادي في الأمة لم يكن همُّ الإمام الشافعي فقط، ولكنه كان ديدن الأئمة المعتبرين أيضا، ذلك أن المتأمل في سمات ومميزات المذهب المالكي –من حيث الأصول والقواعد التي أقام عليها فكره الفقهي والعقدي والمقاصدي والحضاري والثقافي والديني- ليدرك أنه يمثل بحق العقل الجمعي للأمة، ويستدل لهذا بالسياق التاريخي لتدوين كتاب “الموطأ” الذي كان نتيجة لمقتضيات الزمان والمكان حيث اتجهت همة العلماء والخلفاء من قبل عصر مالك إلى جمع علم المدينة، ولم يكن لمالك من منازع في الأمر، وقد ورد في الأخبار أن “أبا جعفر المنصور قال لمالك: ضع للناس كتاباً أحملهم عليه، ويرون أنه قال له: يا أبا عبد الله ضم هذا العمل، ودونه كتبا، وتجنب فيه شدائد عبد الله بن عمر، ورخص ابن عباس وشواذ ابن مسعود، واقصد أواسط الأمور وما أجمع عليه الصحابة.

ويروى أنه حصلت بينهما مجاوبة في الغرض من الكتابة، إذ قال أبو جعفر: اجعل العلم يا أبا عبد الله علما واحداً، فقال له مالك: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في البلاد، فأفتى كل في عصره بما يرى، وإن لأهل هذا البلد (أي مكة) قولاً، ولأهل المدينة قولاً، ولأهل العراق قولاً قد تعدوا فيه طورهم”[19].

ولأن “كل تطور في العلم إنما هو ترجمة لتطور في المجتمع، وكل تحول في الأول إنما هو صدى لتحول في الثاني”[20] فقد كان لظهور مجموعة من الأحداث أثرا على الصناعة الأصولية، ذلك أن انكباب المسلمين على الترجمة للفلسفة والمنطق، وظهور فرق كلامية متسلحة به، أدى إلى انتشار العدوى داخل العلوم الشرعية، خاصة علم الأصول الذي بدا فيه هذا الأثر قويّاً مع إمام الحرمين ت 478هـ حيث كان كتابه البرهان متأثرا بمناهج المناطقة وطرائقهم في الاستدلال والحجاج. فأشار إلى أهمية (الحد) في أي فن، ذلك أنه “حق على كل من يحاول الخوض في فن من فنون العلوم أن يحيط بالمقصود منه، وبالمواد التي منها يستمد ذلك الفن، وبحقيقته وفنه وحده إن أمكنت عبارة سديدة على صناعة الحد”[21]. وقال: “الغرض من الحد الإشعار بالحقيقة التي به قيام المسؤول عن حده، وبه تميزه الذاتي عما عداه”[22].

والناظر في كتب تلميذه أبي حامد الغزالي يجد أن طبيعة التأليف فيها إنما هو استمرار لمدرسة شيخه الجويني، وأكبر دليل على تأثره بالنفس المنطقي في الكتابة الأصولية تصديره لكتابه “المستصفى” بالمقدمة المنطقية الشهيرة التي جزم بأنه “مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا (…) وحاجة جميع العلوم النظرية إلى هذه المقدمة لحاجة أصول الفقه”[23].ومن ثم جعل الحد والبرهان آلة اقتناص العلوم. وقد كان للإمام الغزالي أثرا واضحا للتجديد الأصولي على مستوى التصنيف، ذلك أن علم أصول الفقه كان عبارة عن وحدات فكرية متناثرة لا تجمع بينها رابطة، ولا تكاد تجد نسقا موحدا يحدد العلاقة بين مفاهيمه ومكوناته حتى جاء الإمام الغزالي بنظرية الأقطاب الأربعة؛ وهو ما عنونه بقوله: “بيان كيفية دورانه على الأقطاب الأربعة” ثم قال: “اعلم أنك إذا فهمت أن نظر الأصولي في وجوه دلالة الأدلة السمعية على الأحكام الشرعية، لم يخف عليك أن المقصود معرفة كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة، فوجب النظر في الأحكام، ثم في الأدلة وأقسامها، ثم في كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة، ثم في صفات المقتبس الذي له أن يقتبس الأحكام، فإن الأحكام ثمرات، وكل ثمرة فلها صفة وحقيقة في نفسها، ولها مثمر ومستثمر وطريق في الاستثمار”[24] والنص يتضمن رؤية عميقة جدًّا أسهمت في إعادة بناء الدرس الأصولي تصنيفا.

ولأن كل نظر في علم أصول الفقه يلزمه الأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي الذي أنتج فيه فقد دفعت أحداث المجتمع في ميلاد أكبر عملية تجديد في تاريخ علم أصول الفقه شكلت منعطفا حضاريا في إعادة صياغة العقل المسلم، صياغة جمعت بين ضبط قوانين العقل، وتسييج مقاصد المكلف في معادلة عُمِل فيها على “دمج العقل بالقلب حتى تنقاد النيات إلى قوانين العلم، فلا تضل في متاهات البدع والخرافات، وينقاد العقل أو العلم إلى صلاح النيات، أي إلى قصد الشارع فلا يزل عن قصد التعبد إلى قصد الحظ”[25]. فكان أكبر مشروع تجديدي للأمة عقيدة وفكراً وتدينا ولكن عبر قناة التجديد في علم أصول الفقه، كان ذلك مع الإمام أبي إسحاق الشاطبي الغرناطي (ت790). هذا التوفيق بين قوانين العقل وقوانين الشرع، وهذا التقريب الأصولي بين مختلف المذاهب الفكرية والفقهية كان حاضراً عند الشاطبي، وهو بصدد تسمية كتابه “الموافقات”، وقد كان سماه قبل “التعريف بأسرار التكليف تم عدل عنه إلى ما ذكرت: “الموافقات” قال عنه: “وحاصله أني لقيت يوماً بعض الشيوخ الذين أحللتهم مني محل الإفادة، وجعلت مجالسهم العلمية محطا للرحل ومناخاً للوفادة، وقد شرعت في ترتيب الكتاب وتصنيفه، ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه، فقال لي: رأيتك البارحة في النوم وفي يدك كتاب ألفته، فسألتك عنه فأخبرتني أنه كتاب الموافقات. قال فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة، فتخبرني أنه كتاب الموافقات، قال فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة، فتخبرني أنك وفقت بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة، فقلت له: لقد أصبتم الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مصيب وأخذتم من المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيب”[26].

وقد شملت خطة تجديده – بما استدعاه نظره العلمي الثاقب- مدخلين:

الأول: المدخل المصطلحي، والثاني: المدخل المقاصدي:

أما الأول: فقد وجه من خلاله نقداً غير صريح لما تقدم، وذلك نقده لنظرية الحد “من جهتين:

الأولى: فلسفية، من حيث إن المناطقة يرمون في الحد معرفة الماهية وهو محال، لأن الماهية في الجوهر غيب، وإنما نعرف الأشياء بأعراضها ولوازمها ذلك “أن ماهيات الأشياء لا يعرفها على الحقيقة إلا باريها، فتسور الإنسان على معرفتها رمي في عماية”[27] وهذا قصد مناقض لقصد الشارع الاعتقادي، أي أنه طلب لما نُهي شرعا عن طلبه، أو بمعنى آخر: طلب لحد أمر توقيفي بالعقل. وهو الماهيات من حيث هي جواهر، إذ محاولة ذلك إنما هو من قبيل: “يسألونك عن الساعة أيان مرساها”[28].

وأما الثانية: فلكون الحد المنطقي خارجاً عن مقتضى النظر الأصولي، أي خارج عما يشتغل عليه النظر الأصولي الذي ينبنى على قصد الامتثال، والبحث في الماهيات بحث فيما ليس تحته عمل. وهو ما نفى الشاطبي دخوله في الفكر الأصولي، لأن صياغة الحد في ذاتها أشبه ما تكون بالمستحيلات من حيث “أن الحدود على ما شرطه أرباب الحدود يتعذر الإتيان بها”[29]. ففي “ذلك من تكليف ما لا يطاق ما فيه. ثم فيه بعد الصياغة –إن تمت- ما فيه من إغراب مخل بقصد الإفهام، فالامتثال”[30].

ولذلك وجدنا الشاطبي في مقدماته الثلاث عشرة يُحكم المنهج البياني الذي سيقتفي أثره ويبني عليه قضايا العلم قال: “كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عونا في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية (…) ولا يلزم على هذا أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه”[31]. وأردف قائلا: “كل مسألة لا ينبنى عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي”[32].

  • وأما المدخل الثاني: المدخل المقاصدي : فقد تأكد بصورة واضحة جلية سريان نظرية المقاصد في كل المصطلحات الأصولية، وفي جميع أقطاب الدرس الأصولي بدءاً بكتاب الأحكام إلى الأدلة إلى الاجتهاد، وما تفرع عن ذلك.

ولذلك يمكن ترجمة أبعاد هذه النظرية في قسم “الضروريات الخمس” وفي “مسائل المباح” حيث تجلت لمسة المقاصد “عنده بشكل واضح لم يسبق إليه، ولم يتناوله غيره بالطريقة التي عالجه بها. فقرر عموماً أن : “الأحكام الخمسة إنما تتعلق بالأفعال والتروك بالمقاصد”[33]، ومعنى ذلك أن أفعال المكلفين وتروكهم إنما تتعلق بها الأحكام الشرعية التكليفية إذا توفر فيها “القصد”، وأما ما وقع من غير قصد ولا عمد ولا نية… فهو “بمثابة حركات العجماوات والجمادات”[34].

وكان هذا منه نقد غير مباشر للتعريف الذي تقرر عند الأصوليين للحكم الشرعي بأنه: “خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو وضعا أو تخييراً فخطاب الله تعالى –حسب الشاطبي لا يتعلق بأفعال المكلفين إذا كانت خالية من القصد”[35].

وهكذا طبع معالجته للحكم الشرعي بميزتين ونظرين:

الأول: نظرته التكاملية لأقسامه: حيث جعل بين هذه الأقسام جسوراً يربط بعضها ببعض، ويكمل بعضها بعضا.

والثاني: نظرته المقاصدية: حيث ربط بين تفاوت درجات الإلزام في الأحكام التكليفية الخمسة وبين مستوى خدمتها للمقاصد الثلاثة من جهتي الوجود والعدم، ولذلك كان أعلى درجات الإلزام: الوجوب والحرمة من حيث حفظهما للضروريات لعظم مصالحها في الحياة، وأدنى منهما: الندب والكراهة من حيث حفظهما للحاجيات، وإنما يتفاوت الإلزام بتفاوت ما يبنى على ذلك من المصالح. قال الإمام القرافي –رحمه الله: “المصلحة إذا كانت في أعلى الرتب، كان المرتب عليها الوجوب، ثم إن المصلحة تترقى ويرتقي الندب بارتقائها، حتى يكون أعلى مراتب الندب يلي أدنى مراتب الوجوب، وكذلك نقول في المفسدة التقسيم بجملته. وترتقي الكراهة بارتقاء المفسدة حتى يكون أعلى مراتب المكروه يلي أدنى مراتب التحريم”[36].

ولم تفتأ نظرية المقاصد أن امتدت إلى معالجة البعد الحضاري للأحكام التكليفية، عبر عن ذلك الشاطبي في قسم المندوب بقوله: “المندوب غير لازم بالجزء ولكنه لازم بالكل”[37] ومعنى ذلك أن المندوب غير لازم في صورته الآحادية لأنه ليس لتركه كبير تأثير، لكنه يصير لازما في صورته الكلية لما ينبني على الإخلال به من إخلال بالمقاصد الكبرى للدين ولذا قال: “إذا كان الفعل مندوبا بالجزء كان واجبا بالكل، كالآذان في المساجد الجوامع أو غيرها،وصلاة الجماعة وصلاة العيدين وصدقة التطوع والنكاح والوتر والفجر والعمرة، وسائر النوافل الرواتب.”[38].

وأما المدخل الثالث: ويتجلى في ارتقائه بعلم أصول الفقه إلى اعتباره ملتقى العلوم الشرعية واللغوية وإن كان فعل الشاطبي في هذا الأمر هو استمرار لجهود من نظروا لأصول الفقه قبله، لكن لمسة التجديد العلمي عنده واضحة في هذا الجانب، فقد اغتنى مصطلحه الأصولي بتعدد مصادره العلمية، فقد ارتحل إلى علم الأصول عنده الكثير من المصطلحات المنتسبة إلى علم آخر لكن التوظيف والاستثمار لها كان أصوليا، ويظهر هذا التنوع المصدري للمصطلح الأصولي عنده في كتابه الموافقات بشكل واضح. فقد وظف مصطلحات متنوعة منها صاحب المصدر الكلامي والفقهي واللغوي والحديثي والقرآني والأصولي وغير ذلك كثير.

وبعد هذا أمكن أن نقول إن مشروع الشاطبي في الكتابة داخل نسق أصول الفقه قائم على الإصلاح والتجديد لدين الأمة، ولكن من باب العلم، تجديداً له من مدخل النسيج المصطلحي الذي راكمه، ورؤيته المقاصدية الناضجة في نظره النقدي العلمي.

ثانيا: مقترحات في طريق التجديد:

إذا أمكننا أن نعتبر محاولات التأليف الأولى في تاريخ الفكر الأصولي تجديداً بلا منازع، وهي تعكس المنعطفات الحضارية الكبرى لتاريخ العلم، وأن نفند كل مزاعم النقد الموجه إليها، وذلك لاستجابتها لطبيعة السياق التاريخي والموضوعي الذي كتبت فيه سواء ما ناسب تاريخ إبداع هذا العلم وفتقه، أو ما انقدح فيه نَفَسُ المنهج المنطقي في الكتابة أو التأليف الأصولي، أو ما -حاز شرف الإجماع مما جاء بعد ذلك سيما ما -كتب في القرن الثامن الهجري وقد استوعب كل أركان التجديد جملة وتفصيلا. فإن كل المحاولات التي جاءت بعد ذلك –خصوصا المعاصرة منها- لم تسلم من النقد، ولم تضف إلى أصول الفقه شيئا غير التأكيد على ضرورة الاشتغال بقواعده، وأهميته المنهجية الاستدلالية والاستنباطية والبرهانية والمعرفية والتنزيلية.

وإني مع ما لاحظته من نقائص على محاولات التجديد هذه فإني لا أنكر صعوبة الأمر بما يبرر عدم وضوح الرؤية، وملازمة الحيرة للناظر فيه لأن سياق التجديد هو سياق يفتقر إلى النموذج، والنظر في موضوعه يستلزم النظر في صفات القائم به، والاقتضاءات العلمية والمعرفية والمنهجية التي يستقيم نظره بها، بحيث تسلم طروحاته من كل الاعتراضات التي تمنع الرؤية من أن تكون رؤية علمية حقيقية تجيب عن إشكال التجديد في علم أصول الفقه. ثم هل دعوى التجديد هذه مفتقرة إلى إعادة النظر في قواعده، أم إلى عدم وجود من هو مؤهل للعمل بهذه القواعد؟

ومع أن هذه التساؤلات الواقعية والموضوعية تستلزم إعادة النظر في سؤال التجديد إلا أن هناك من المقترحات ما يمكن أن نقتنع ونأخذ به، ونعتبره أمرا مسلما به في مقومات القول بالتجديد، أو أن نسجله في أدنى درجات القول به كملاحظات يجب إعادة النظر فيها على رأسها تضييق مساحات الخلاف فيه، وقد سرطته المذهبية الفقهية والمذهبية الكلامية الجدلية نذكر نماذج من ذلك مما ورد في أمهات كتب أصول الفقه مثل الاختلاف بين الأصوليين في مسألة الناسخ قبل تبليغه صلى الله عليه وسلم الأمة هل يثبت في حقهم بمعنى الاستقرار في الذمة أو بمعنى الامتثال، أو لا يثبت فيهما معا”[39]؟ ومثله الاختلاف في جواز نسخ الخبر، قال القاضي أبو بكر في إحدى صوره: يجوز نسخ إيجاب الإخبار بشيء، بإيجاب الإخبار بنقيضه…كالتكليف بالإخبار بقيام زيد ثم التكليف بالإخبار بعدمه، لاحتمال كونه قائما عند الأول، وغير قائم عند الثاني، فإن لم يقبل التغيير كحدوث العالم فمنعه المعتزلة بناء على التقبيح العقلي، وجوزه أهل السنة”[40]. ومثله أيضا الاختلاف في كثير من قواعد المنهجية التشريعية، ولذلك سعى الكثير من الأصوليين مثلا إلى القول بإرجاع الاستحسان إلى أصل رفع الحرج أـو إلى المصلحة، من باب تضييق المختلف فيه إلى الأصول المتفق عليها. ومثله أصل مراعاة الخلاف إذا تأملته وجدته أصلا ترجيحا في الاجتهاد يؤخذ فيه بما غلب درءاً للمفسدة أو أخذاً بأدناها وأخفها، ثم جلبا للمصلحة أو أخذاً بأعظمها وأكبرها لانتفاء التمحض في الأمرين. وسد الذرائع يمكن إرجاعه إلى أصل المنع الذي سميت به تغليبا، أو إلى أصل الإذن حينما يتوجه الخطاب إلى الأمور المنهي عنها باعتبارها وسائل لا باعتبارها مقاصد، فيترتب على التقيد بالمنهي عنه الوسلي تفويت مصالح كبيرة فيلزم عن ذلك التمسك بالفتح لا السد، “فالذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة”[41].

وشرع من قبلنا أيضاً أصله ما كان في الكتاب والسنة من آيات وأحاديث، لا أن نأخذ بما في التوراة والإنجيل فالقرآن مهيمن عليهما معا.

وإذا كان أصول الفقه وضع أصالة لبناء الفقه فإن الحاجة –العلمية والمنهجية- إليه اليوم صارت أشد، ولذلك يمكن استثماره في الدراسات التطبيقية التفسيرية، إذ أصول الفقه ينبغي أن يكون حاضراً في بناء قواعد علم التفسير فذلك أول وظائفه العملية سيما وأنه يقدم منهجا متكاملا لفهم النصوص الشرعية وبيانها قرآناً وسنة، وتلك هي الغاية الأولى التي أنشيء من أجلها، إذ هو المحدد لدلالات الألفاظ وفق فهم شمولي يربط فيه الكلي بالجزئي، والعام بالخاص، والمطلق بالمقيد، والمنطوق بالمفهوم، والمجمل بالمبين سيما إذا  نظر إلى الأمر نظرة شمولية، واستعين في ذلك بالعلوم التراثية التي تعتبر قواعدها في وضع الموجود بالقوة، لا الموجود بالفعل، بما هي قواعد مشتتة موزعة في رحم التراث. وهي في ذلك متوقفة على استخراجها من كتب علم البلاغة، وقد حظي القرآن الكريم باهتمام كبير من طرف البلاغيين، وكان مرتعهم في الاشتغال، وكذا كتب المعاجم التي يمكنها أن تقدم تفسيراً شاملا للقرآن الكريم يكفي الباحث من ذلك أن يقف عند لسان العرب لابن منظور، ومقدمات كتب التفسير وكتب الإعجاز، وكتب الفقه، والكثير من كتب الأدب القديم التي اهتمت بالشعر والنثر العربيين… فكل هذه العلوم إذا وجدت وقعدت قواعدها، أمكن أن نتجاوز أزمة ضعف التفسير وليونة مصطلحاته، وأن نبدأ مرحلة الإبداع فيه، استعانة بهذه القواعد المستجمعة من علوم التراث، وحينئذ يمكن أن نَشرع في مرحلة تجديد العرض بقواعد تسمى: “قواعد علم التفسير المؤسسة على الاستثمار التركيبي للعلوم، لا الاستثمار الآحادي، لأن التحدي يكون في إيجاد نموذج تركبي علمي معرفي مندمج. كل هذا في إطار المسالك الأساسية للفهم وهي: البيان والتفسير، والتأويل مع تثوير “القواعد المنهجية” التي يمكن استثمارها في مسالك الفهم، وهي: السياق، والتعليل، والتقصيد.

وفي هذا السياق يمكن إدراج ما بسطه الشيخ الطَّاهر بن عاشور من القول بصلاحية هذا الجانب من علم أصول الفقه أن يكون مادة للتفسير وأداة للمفسر، وذلك “من جهتين:

إحداهما: أن علم الأصول قد أودعت فيه مسائل كثيرة هي من طرق استعمال كلام العرب، وفهم موارد اللغة، أهمل التنبيه عليها علماء العربية، مثل مسائل الفحوى ومفهوم المخالفة.

الجهة الثانية: أن علم الأصول يضبط قواعد الاستنباط ويفصح عنها، فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها”[42].

وبهذا الاشتغال يمتد الأثر الأصولي ليشكل جزءاً من المنهج العلمي لتفسير النصوص بكل أنواعها، وقد نبه ابن جزي الغرناطي قديما إلى أن المفسرين أغفلوا أصول الفقه في صياغة قواعد التفسير، وأشار السكاكي أيضا في كتابه مفتاح العلوم إلى أن أول ما يعين المفسر في تحصيل العلم بكتاب الله هو علم أصول الفقه. هذا فضلا عمّا له من وظائف علمية ومنهجية أخرى، يجب أن يُتجه في تحقيقها إلى “تحديد الضوابط الأصولية، والقواعد المقاصدية، فيما يتعلق بفقه الأولويات والموازنات، وكذا قواعد ترتيب الحجاج، والاستدلال”[43]. وهكذا تتجه الجهود إلى تكميل وتتميم أصول الفقه “بقواعد تضمن بناء مراتب التشريع ليس بمعنى الترتيب التقليدي للأصول: الكتاب فالسنة فالإجماع فالقياس ! كلا فهذا ترتيب مدرسي، لا إشكال فيه ولا خلاف، وإنما القصد منه بيان قوة الحجة الكلية للدليل، وأما قواعد الترتيب التشريعي المطلوب تجديدها، فهي المتعلقة بترتيب التفكير الفقهي، الضابطة لمراحله الذهنية، بدءا بمرحلة الفهم للنص، كيف يتم؟ ثم مرحلة الاستنباط منه كيف تقع؟ ثم مرحلة التحقيق للمناط: كيف تنزل أحوالها ومآلاتها بين العموم والخصوص؟ وما يعتري كل ذلك من تقديم وتأخير، أو استثناء وتخصيص للأدلة بعضها على بعض، وبعضها من بعض إلى غير ذلك من سائر الأحوال والممكنات الاستدلالية في الدرس الأصولي والمقاصدي”[44].

وبهذا نضمن بناء النظر الكلي للدليل، لا النظر الجزئي الذي يظل التفكير فيه رهين الدليل الجزئي، وهو ما لا يستقيم به الاستدلال، ثم التفريق بين مستويات نصوص الوحي، واجتهادات العقل في حجية وقوة ما يتمسك به، “فليس ما شرع في القرآن – من حيث القوة التشريعية- على وزان ما اشتغلت السنة بتشريعه، ولا ما شرع في السنة على وازن ما اشتغل الاجتهاد بتشريعه، وليس ما أجمل في الكتاب كما فصل فيه، فهذا ترتيب لا تكاد تجد له في أصول الفقه قواعد مفصلة إلا قليلا، رغم أنه جار في الاعتبار الفقهي لدى أغلب علماء الأمصار والمجتهدين الكبار”[45].

وهكذا إلى تكميل قواعد تحقيق المناط بمعناه العام والخاص، وتفعيل ذلك في مجال النفس إلى مجال المجتمع، سيما وأن لقواعد أصول الفقه مجال خصب وحضور متميز في العلوم الاجتماعية والإنسانية، أو قل من الحضور المتميز في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومن ضمنها علوم التربية، وقد تبين ما لمنهج الدرس الأصولي من أثر تربوي تعليمي[46]، وذلك بناء المادة التعليمية ابتداء من كيفية اختيار المحتوى، إلى كيفية تقديم المادة العلمية للطالب، وبيان طرق عرضها عرضا يسهل معه أخذها، وإدراك مسائلها وأسرار ترتيبها، وبيان هيآتها الاجرائية، وكيفياتها الأدائية التعليمية.

وقد أفلح الدرس الأصولي –أيما فلاح- في تنمية الإنسان وحفظه في كله: دينا ونفسا وعقلا ونسلا ومالاً، فهو في منهجه التنموي لا يقف عند خدمة كلي العقل، ولكن يتعدى ذلك ليحقق مصلحة المكلف في المعاش والمعاد، في ربط دائم بما يخدم القصد العام للخلق، جاء عن الغزالي: “مقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ورفعها مصلحة، وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضروريات فهي أقوى المراتب في المصالح”[47].

وإن الإحاطة الشمولية بتربية الإنسان وحفظه وجدانيا، وإنمائه فكريا من خلال الاشتغال بما يفيد العمل، أعني ما ينبني عليه العمل، ويهذب السلوك… هي ما جعلت من هذا العلم علما شامخًا يجمع بين صحيح النقل وصريح العقل، ليكون المكلف شامخا شموخاً عقليا وفطريا.

وفي هذا قال الغزالي: “وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم أصول الفقه من هذا القبيل فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول، بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد”[48].

وبمنهجه هذا كان أرقى العلوم في توصله إلى أجمل صور الاستثمار البشري الإنساني على الإطلاق لأنه لا يضخم جهة على أخرى، ولا يغذي إدراكاً أو صفة في المكلف على حساب أخرى فهو يساهم في تكوين الشخصية السوية المتزنة، ويحقق منهجا وسطا في الفهم، لا يميل إلى الإفراط أو التفريط، ولا إلى الغلو أو التقصير ومن هنا تأتت جمالية هذا العلم لجمال منهجه في التربية والتكوين.

ويمتد استثمار أصول الفقه أيضا إلى توظيف العديد من المناهج البحثية التي تعج بها المعارف الشرعية-في الدراسات الاجتماعية والإنسانية المعاصرة، بغية الوصول إلى ضبط محكم للآثار المترتبة على الظواهر المادية التي تطرأ على حياة الإنسان وتؤثر فيها، وبغية تسخير نتائج الدراسات المختلفة لمصلحة الإنسان المكلف بعمارة الكون. ومن الأدوات القادرة على تحقيق هذا الأمر الاستحسان الأصولي والاستصحاب، وتحقيق المناط، والمفهوم (الموافقة والمخالفة) والدلالات (عبارة النص، وإشارة النص، ودلالة النص واقتضاء النص).

فضلا عن المقاييس الفذة لنقد المتون في علم الحديث، فهذه المناهج يمكن استخدامها في الدراسات الإنسانية والاجتماعية المعاصرة، من أجل التوصل إلى حسن تفسير للظواهر النفسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية التي تطرأ على حياة الفرد والجماعة”[49]. إذا أضفنا إلى ذلك استثمار آليات تحليل الخطاب الأصولي في الدراسات الأدبية واللسانية لاستخراج كافة طاقات النص في الدلالة على معانيه.

هذا نظر في الموضوع أثار إشكال التجديد في أصول الفقه، وخلص إلى تحقق مقتضى التجديد في التحولات الثلاث الكبرى للفكر الأصولي التي شكلت أطواره، ونبه إلى أن التجديد حاجة طبيعية ملحة ومقوم حضاري يفرضه استئناف السير، ومواكبة مستجدات الزمان والمكان، وحال الإنسان ومتغيرات الواقع، وهو دليل على حيوية الأمة وتوثبها، ويقظة عقلها، ونشاط تفكيرها، ثم حفاظها على سنن التاريخ ومواعيده.

كما أشار أيضا إلى أن التجديد يستجيب ويتطابق وطبيعة الأحكام التي لا تنزل في الوجود الذهني مطلقة، وإنما معينة مشخصة الشيء الذي يستدعي إدامة النظر في بعض مقتضياتها الدلالية البيانية، وما يرتبط بذلك من آثار للأحكام على المستوى التشريعي تتفاوت درجات الإلزام فيها بين الصورة الآحادية الجزئية، والصورة الكلية في الاقتضاء الطلبي والتركي.

وفي السياق ذاته نبهت هذه المحاولة إلى أن التجديد في العلوم الإسلامية عموماً، والدرس الأصولي خصوصا تضافر على التأصيل له واقعان: الواقع العلمي النظري والواقع العلمي التاريخي، وقد ألفتنا النظر إلى بعض ذلك في متن هذه الدراسة بما يثبت حقيقة أن كل تطور في العلم إنما هو نتيجة لتحول في المجتمع، وقد بدا هذا واضحاً في تطور الفكر الأصولي.

هذا وقد أجمع كثير من الباحثين على حقيقة مفادها: أن أول خطوات التجديد هو: قتل الماضي بحثا، ولذلك فنحن اليوم قبل أن نتحدث عن أي تقدم وأي خطوة في هذا الاتجاه لازم علينا التحقق “بالتجديد الاستعابي”، وهو تجديد يتعلق عموماً بتحقيق درجة الإحسان في عرض التراث، ليس العرض المتعلق بالتجديد الإنشائي، أي المرتبط بإعادة استنساخ الكتابات التراثية واستدعائها نصوصاً وأقوالا، وإنما المتعلق بالتجديد البنائي، أي المرتبط بإعادة بناء الكتابات التراثية بناء تقويمها يرتحل فيه إلى نصوص التراث لينهل منها مع استحضار سياقاتها العلمية والثقافية والاجتماعية والنفسية والإقليمية مع مراعاة تطور مفاهيمها ومصطلحاتها، وكذا المقارنة “بين بنائها الشرعي بخصائصه الكلية المستوعبة للزمان والمكان لأنها من الوحي المطلق الذي يمنحها قوة البقاء والعطاء في ساحة التدافع والتعارف الكوني، وبين تداولها التاريخي النسبي المتغير في الزمان والمكان، والذي ينبغي أن يكون تغيرا شفافاً وكاشفا باستمرار وبشكل متجدد عن تلك المضامين والدلالات الشرعية البانية والموحدة، لا أن يحتل مكانها فيتحول إلى عنصر مقيد لحركية وفاعلية المفهوم، يعكس خلافات وصراعات التاريخ وينقلها إلى أعصر وأزمنة هي في غنى كامل عنها”[50]. لأن استدعاء مثل هذه المفاهيم المغلفة بظروف الزمان والمكان يكسبها صفة النسبية. ومقتضى النسبي هو غير مقتضى المطلق.

وإن خطوة كهذه تستدعي جهداً مؤسساتيا لإخراج هذه القواعد الكامنة في التراث من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، ليكون هذا الأمر مدخلا إلى التجديد الإنتاجي الذي به تستطيع الأمة أن تجيب عن نوازلها الجديدة.

الهوامش: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] رواه أبو داود في الملاحم رقم 4291، وصححه السخاوي في في “المقاصد الحسنة” 149 والألباني في السلسة الصحيحة رقم 599.

[2]الموافقات في أصول الشرعية، 3/346.

[3]التجديد الأصولي نحو صياغة تجديدية لعلم أصول الفقه ص 209.

[4] ينظر كتاب مدخل تأسيسي في الفكر المقاصدي د عبدالرحمن العضراوي ص150.

[5]مفهوم القطع والظن وأثره في الخلاف الأصولي: ص 302.

[6] “التمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية” ص 235.

[7]نفسه، ص 245.

[8]مناقب الإمام الشافعي فخر الدين الرازي، ص 57 تحقيق أحمد حجازي.

[9]مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص 45.

[10]الاعتصام، 1/244-245.

[11]الاعتصام، 1/245.

[12]قواطع الأدلة في الأصول للسمعاني، ص 30.

[13] إشارة إلى الفقه الافتراضي عند أبي حنيفة.

[14]المقدمة، ص 503.

[15] الرسالة 51-52.

[16]نفسه ص 50.

[17]نفسه ص 20.

[18] ينظر المحصول للرازي 1/89.

[19]مالك الإمام أبو زهرة، ص 183-184، دار الفكر العربي.

[20]المصطلح الأصولي ص 124.

[21]البرهان 1/77.

[22]البرهان 1/99.

[23]المستصفى: 10.

[24]المستصفى 1/17.

[25]المصطلح الأصولي ص 152.

[26]الموافقات، 1/34.

[27] الموافقات 1/58.

[28] الأعراف 187. والنازعات 42.

[29]الموافقات 1/58.

[30]المصطلح الأصولي 157-158.

[31]الموافقات 1/42.

[32]نفسه 1/46.

[33]الموافقات 1/149.

[34]نفسه 1/149.

[35]نفسه 1/151.

[36]الفروق، 3/94.

[37]الموافقات، 1/94.

[38]الموافقات، 1/94.

[39] ينظر كتاب الغيث الهامع شرح جمع الجوامع ص378.

[40] المرجع السابق ص 375.

[41]الفروق 2/33.

[42]التحرير والتنوير ابن عاشور، 1/26.

[43] الفطرية بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام، فريد الأنصاري، ص 225.

[44] المرجع السابق، 225-226.

[45] المرجع السابق، ص 226.

[46]يمكن التوسع أكثر في بحث: “التكامل بين علم أصول الفقه والعلوم الإنسانية قصد الإفهام نموذجاً” وهو أطروحة الدكتوراه، للباحث.

[47]المستصفى 2/482.

[48]نفسه 1/14.

[49]نحو منهجية أصولية للدراسات الاجتماعية د لؤى صافي، ع الأول السنة الأولى 1995.

[50] المصطلحات والمفاهيم في الثقافة الإسلامية بين البناء الشرعي والتداول التاريخي ص 10.

التعليقات

اظهر المزيد

د. عبد العالي عباسي

باحث مغربي، يعمل حالياً أستاذناً لأصول الفقه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة السلطان مولاي سليمان بني ملال، له عدد من الدراسات والمقالات المنشورة في مجلات عربية ووطنية، وشارك في عدد من المؤتمرات والندوات الدولية والوطنية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *