قراءات في كتب

في الإجابة عن سؤال ما السلفية؟

قراءة في كتاب:

  1. تقديم

صدر كتاب “في الإجابة عن سؤال ما السلفية؟” عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات سنة 2018، لصاحبه الباحث والمفكر العربي عزمي بشارة. يحتوي الكتاب 254 صفحة بالبيبليوغرافيا والفهرس، بالقطع الوسط. يضم أربعة فصول رئيسة بالإضافة إلى تقديم؛ الفصل الأول عن السلفية، والفصل الثاني عن التكفير، والفصل الثالث عن السلفية والحركات الإسلامية، والفصل الرابع عن الوهابية في هذا السياق. يُعتبر هذا النص مقدمة نظرية لكتاب “تنظيم الدولة المكنّى “داعش””، وُضع مستقلاً لأهميته ولغزارته المعرفية. يحاول بشارة فيه أن يجيب عن سؤال هل السلفية مرحلة زمانية مباركة وفق تعبير سعيد البوطي؛ هل هي مذهب إسلامي أم مذهب فقهي واعتقادي في نفس الآن؟ أم هي مذهب عقائدي فقط؟ أم هي نزعة موجودة في كل الاتجاهات والمذاهب الفقهية والمدارس الكلامية وليس فقط في المذهب الحنبلي؟ ثم علاقة السلفية بالوهابية وعلاقتها بأهل الأثر وأحمد بن حنبل وابن تيمة؟

يتم تناول مفهوم السلفية سواء ضمن منهج الدراسات الإسلامية أو الدراسات الاستشراقية كونها منظومة أفكار متجانسة، صلبة ومتماسكة، فهي سلفية واحدة بدأت مع ابن حنبل وانتهت إلى محمد بن عبد الوهاب. حسب هؤلاء أن السلفية هي ظاهرة تاريخية قديمة، وهي استمرار طبيعي لحركة أفكار وتقاليد لها تاريخها الخاص الواضح، وذلك في إغفال لتأثير الظروف السياسية والاجتماعية على الأفكار. كما تمت دراستها من منطلق سوسيولوجي إما كونها ردة فعل على الحداثة بالدعوة للرجوع إلى الماضي والتمسك به، أو هي حزب سياسي يطمح للمشاركة في الحكم، أو هي طبقة اجتماعية وطائفة تم اقصاؤها من التحديث. إلا أن ظاهرة السلفية حسب عزمي بشارة جد معقدة ومتشابكة وذات الاتجاهات عديدة، وأنها سلفيات وأصوليات كثيرة. سنحاول في هذه القراءة الإجابة عن سؤال هل السلفية ظاهرة حديثة أم قديمة؟

  1. مفهوم السلفية

لا يمكن فهم التنظيمات الحالية إلا بالجمع بين تأثير الحداثة عليها وتأثير التقليد، حيث ترفض الدراسات الإسلامية والإسشراقية دراسة ظاهرة السلفية إلا بالرجوع إلى النص الديني المؤسس وإلى مصادر التشريع في شكلها الأول، بالحفر في المؤلفات المؤسسة والأعلام الأوائل دون الرجوع للسياق التاريخي. كما أن علم الاجتماع تناول ظاهرة السلفية في شكلها الراهن بأنها محاولة لتخليص الدين من العرف، بمعنى محاولة انتاج نمط من التدين الأرثوذوكسي، إلا أنه أيضاً تأثرت بالدراسات الاستشراقية بكون السلفية متمركزة حول النص الديني لهذا هي حركة جوهرانية يصعب اخضاعها للتغيير والاندماج، فهي ظاهرة تنتمي إلى التقليد وليس إلى الحداثة.

يعني مصطلح السلفية تعريفات عديدة؛ منها الالتزام بالقرآن والسنة وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بما فيها أقواله وأفعاله وتقاريره، فهي تقدم “النص والأثر على العقل، في الجملة، وعلى الرأي القائم على الدليل العقلي، عند حصول التعارض”. إلا أن الملاحظ عليها حسب بشارة كونها منتقية للحضارة الإسلامية والتاريخ، حيث أهملت الفقه وعلم الكلام والفلسفة والفن وتمسكت بشكل متخيل ومختزل للحضارة الإسلامية. كما أنها لم تظهر في القدم باسم السلفية، بل درجت في مدونات الحنابلة وطبقات التراجم باسم “أهل الأثر”، أو أصحاب الأثر، بمعنى الأثريون الأصوليون أو الرجعيون. وهو إعادة إنتاج متواصل إلى الأثر. لهذا ترى أن النصوص الدينية واضحة لا غبار عليها، يكفي قراءة النص الديني كما هو دون مفسرين، أو فقط بالرجوع لتفسير الرسول أو الصحابة الذين لم تؤثر فيهم الأطماع السياسية، وذلك لمنع كل تأويل وتعددية واختلاف.

إذا كانت الحداثة سيرورة، فإن السلفية جزء من هذه الحداثة.

حسب بشارة أن السلفية ظاهرة موجودة في كل الأديان والطوائف، فهي موجودة في النصرانية بكونها أصولية، كما تتماثل السلفيتين السنية والشيعية في هذا التعريف، لكن “الشيعة ظلوا فاتحين باب الاجتهاد على السنة الذين أغلقوه”. كما ينفي بشارة ما تروج له الدراسات العربية أو الشرق-أوسطية بأن مصطلح السلفية نمط خاص بالجزيرة العربية، إنما هو يشمل العالم الشيعي أيضًا.

يرى بشارة أن المشكلة الأساسية في الدراسات الاستشراقية بقاؤها “محصورة معرفيًا بالنظرة النمطية أو وجهة النظر التي تبني ثنائية شرق/غرب”، والتي ماهت بين مصطلحي السلفية والأصولية، وجعلتها مرادفة للحركات الإسلامية اليوم، يصف هذا التركيب بـ”ضلال معرفي وبحثي كبير”. لأن الأصولية في أساسها مصطلح مستورد من تسمية كنائس بروتستانتية أمريكية نادت بالعودة إلى أصول الدين والنص التوراتي بإسقاط كل التأويلات المعاصرة. كما أنها “طريقة تفكير، ونهج وسلوك وتوجه، لا تقوم بذاتها، بل ترتبط بنمط تدين معين، سواء أكان مؤسساً أم شعبياً أم حركياً”. لهذا هي سلفيات متنوعة إصلاحية ودعوية وجهادية وعلمية وسنية وشيعية.

أيضاً إذا كانت الحداثة سيرورة فإن السلفية جزء من هذه الحداثة، هي بحسب باحثين آخرين تقليد لها في مرحلة من المراحل بكون الحداثة ظاهرة متجددة. والسلفية ليست عودة للإسلام التقليدي بل هي صراع ضده، فهي خرجت ضد المذاهب الأربع؛ هي محاولة لإحياء الإسلام العربي وتنقيته مما أصابه من نتائج “الجهل” والاختلاط بغير العرب، هي محاولة لتجاوز التقاليد والأعراف المحلية واحلالها بمفاهيم نقية تنتمي للجزيرة العربية.

  1. علاقة السلفية بالحداثة والتحديث

بداية يرى بشارة أن الظاهرة السلفية والانتكاسات الدينية عموماً ودعوات الرجوع إلى الماضي لا تتعلق بالمجتمعات المتخلفة فقط، بل مرتبطة أيضاً بالمجتمعات الأكثر تطوراً، “فالأصولية المسيحية التي ظهرت مع الكتب التي كان ينشرها الأخوين ميلتون وليمان والتي ترمي إلى الإجابة عن أسئلة الدين في علاقته مع كل من الليبرالية والتطورية والاشتراكية، “انتشرت في نفس المناطق المزدهرة في كاليفورنا الجنوبية التي أنتجت هوليود وأشد أنماط الحياة الاستهلاكية” )ص 13(، بمعنى أنه وسط أنماط التحديث المتسارعة تنامت الأصولية الدينية كفكر معاصر يرفض الحداثة.

في الموقف من الحداثة ترفض السلفية فكرة أن يسن البشر القوانين، إذ لا يملك التشريع إلا الله تعالى، وسياسياً ترى أن النص مقدم على الرأي، وأن القرآن جاء لإنقاذ البشر من أهواءهم ورغباتهم، فلولا القرآن لعاش الناس في فوضى وحروب لا منتهية ولا استمروا في “حالة الطبيعة”-بتعبير طوماس هوبز. فالبشر ولوحدهم دون تدخل فوقي لا يستطيعون الاتفاق والتعاقد على سبل العيش المشترك. لهذا فالديمقراطية فوضى وطاغوت وكفر بما أنزل الله. في حالة تنظيم الدولة “داعش” فإنهم تحولوا إلى آلة لهدم كل الحضارة الموجودة من كنائس وتماثيل ومنشئات حديثة، من أجل إعادة بناء حضارة إسلامية خالصة كما كانت في السابق. كما قامت بتجريد الإسلام من التقاليد الشعبية ومن أي سياق ثقافي معاصر وربطه فقط بالأصل الأول.

إنها سلفية منتقية لمنجزات الحداثة، تتبنى بعض المنجزات التي تخدم مصالحها وترفض الباقي، تتبنى الشكل الأداتي للحداثة وترفض كل الأفكار والقيم وتعتبرها من الجاهلية. تشتق سلفية محمد بن عبد الوهاب ذلك من مبدأ توحيد الألوهية والربوبية وفق التقسيم الثلاثي الذي لا يمكن أن يتحقق دون الكفر بالطاغوت. فالله هو المشرع الوحيد وفق مبدأ الحاكمية. بهذا المعنى يمكن تفسير السلفية الإسلامية وفق النمط الوهابي وأمثاله أنها الوعي التقهقري التاريخي في إطار ترسيمة أن كل زمن راهن شر مما قبله. أما في السلفية الإصلاحية فالعودة تتم من أجل التقدم، اشتقاقاً من روح السلف ومقاصد الشريعة في فهم النص الديني.

في إرجاع السلفية لأحمد بن حنبل يرى بشارة أن أحمد كان من أهل الأثر لكنه كان يطيع الخليفة ولا يخرج عن أمره. عكس فرقة المعتزلة التي نظرت لقواعد تلزم الخالق بمسؤوليات اتجاه المخلوق، وتعمل العقل بدل النقل. إلا أن ابن تيمة لها فقهان، فقه يطبقه على المجتمعات الإسلامية التي تستوجب تطبيق الشريعة، وفقه موجه “للمجتمعات العلمانية” التي كانت تحت حكم نظام التتار، حيث وُجه له طلب فتوى من سكان ماردين، حول هل هي بلد حرب أم بلد سلم؟ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا؟ فكان جواب ابن تيمية بكون ماردين بلد “ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين. ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث مركب )…(.

 السلفية ظاهرة موجودة في كل الأديان والطوائف، فهي موجودة في النصرانية بكونها أصولية.

أما علاقة رواد النهضة بالسلفية ومحاولاتهم استرجاع الحديث عن الخلافة بعد سقوط الدولة العثمانية، فالأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ليسوا على منوال واحد. يَعتبر بشارة أن رشيد رضا أكثر سلفية من محمد عبدو. فتلاميذ عبدو كثر، منهم الحداثيون، وقد انقسموا في عشرينيات القرن العشرين إلى قوميين ليبيراليين مصريين، وسلفيين من أتباع رشيد رضا الذي جمع كتابات “الأستاذ الإمام”، وأعلن نفسه التلميذ الأقرب والوفي لعبده. “فقد كان محمد عبده يكلفه بإجابة السائلين نيابة عنه، “وراح يشدد على الإرث الإسلامي المحض لعبده”. (ص22)

لهذا يمكن اعتبار محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار “ارتداداً جدلياً عن إصلاحية محمد عبده الفكرية والتعليمية الحقيقية، إلى سلفية جمال الدين الافغاني المناضلة. لكنه ارتداد جدلي يتضمن المرور بتجربة فكر عبده، ويجري بوثوق من تجاوز إصلاحية عبده في عودة إلى النصوص والآثار. (ص 22-23). لقد عاد رضا إلى العمل السياسي المكثف ودعا إلى استرجاع الخلافة التي كان يرفضها عبده.

شكلت هاجس الوحدة الإسلامية ومحاولات استرجاع الخلافة فكر أغلب النهضاويين الأوائل، كان السنهوري أحدهم الذي يؤمن بالعمل بالوحدة الإسلامية ويعتبر العرب إذا ما اتحدوا في فيدرالية جديدة فإن الوحدة الإسلامية ستكون أقرب إلى التحقق، حيث العرب يتحملون المسؤولية التاريخية في انهيار الخلافة العثمانية.

لهذا الذي انتصر داخل حركة الإخوان في النهاية ليس منهجية الشيخ حسن البنا وتلفيقيته، “حركة تزعم أنها سلفية واصلاحية وصوفية في الوقت ذاته، حزب ديني يحاول أن يخاطب المتدينين سلفيين وصوفيين واصلاحيين، في تبني الإسلام الجامع دون ابداع إصلاحي. (ص 111)، بل سلفية سيد قطب الشمولية التي انبنت على قراءة جديدة لمفهوم “حكم الله”.

إلا أن السلفية تأخذ في جوانب كثيرة بمنجزات الحداثة وتتبنى بعض مقولاتها وتنتقي من الحداثة ما يخدم مصالحها الأيوديولوجية. من ذلك اعتماد قاعدة “لا عذر مع وجود الكتب”، هي مأخوذ من القاعدة القانونية “لا جهل بالقانون”. ولقد تبنت التنظيمات الجهادية المصرية في تحديدها لقواعد التكفير عكس قاعدة “العذر بالجهل”، أي قاعدة “لا عذر بالجهل” من منطلق أن هؤلاء يستوجب في حقهم العذاب كونهم غير معذورين بالجهل، لأن الكتب موجودة، والوصول إليها سهل، فهم مرتدون عن الإسلام بعد الإسلام، وقد بلغتهم الرسالة. كما برر بعض الجهادين استعمال أسلحة الدمار الشامل ضد الكفار قياساً على قبول النبي استخدام المنجنيق ضد أهل الطائف. “الأمر الذي يشير أن السلفيات المعاصرة حديثة بالفعل وإن جذرت نفسها في الماضي”. (ص 71)

كذلك رغم ما يقال عن داعش أنها بربرية ووحشية إلا أنها استعملت أحدث التقنيات للتواصل مع الآخرين. استعملت الانترنت للترويج للدعوة وفي استقطاب الأتباع عبر العالم، حيث اعتبر الأدوات الحديثة هي تقنيات ووسائل محايدة يمكن استعملها في الجانب الإيجابي أو السلبي”. بهذا يمكن تفسير داعش أنها حركة حديثة، بمعنى أن التاريخ والعلوم الوضعية هي من يمكن أن يفسرها وليست الدراسات الإسلامية التي تهتم بالنص الديني فقط. يرى بشارة أن فكرة الخلافة ليست هي الأساس في تشكيل داعش بل الصراعات الطائفية في العراق وسورية وفشل الدولة الوطنية.

وحسب بشارة أيضاً أن مفهوم الحاكمية الذي بدأ مع المودودي وانتشر مع سيد قطب والذي يمنع كل تشريع للقوانين الوضعية، صاغه المودودي انطلاقاً من نظرية السيادة في القانون الدستوري للدولة الحديثة، حيث الصراع ضل عبر التاريخ من صاحب السيادة في الدولة الإسلامية الذي يحق له التشريع، الانسان أم الله؟ يتحدث سروش في توضيح “الحد الأعلى والحد الأدنى من الدين” عن قصة انتشار مرض الكوليرا في مكة سنة 1969، حينها أوصت المراكز الطبية الحجاج بمراعاة الأمور الصحية ومنها غسل اليدين بالصابون، يقول: لكن رجل الدين كان يمنع الحجاج بشدة من غسل اليدين بالصابون، وكان يستند في ذلك على قوله لو كان هذا العمل واجباً كان قد ورد حكمه في الشريعة الإسلامية، ويكفي الغسل مرتين أو ثلاث بالماء المطلق، أيضا يتعلق الموضوع بحد الردة والزنى والسرقة، هل هي قوانين من الحد الأعلى أم الأدنى من الدين؟

أيضاً يعرف بشارة حركات الإسلام السياسي انطلاقاً من علاقتها بالدولة الحديثة، أنها، حركة أرادت “تحويل الأوتوبيا التراجعية المتخيلة إلى برنامج سياسي لحركة سياسية تتعامل مع الشريعة كأنها مجموعة قوانين وضعية للتطبيق، ومع الحكم النبوي والخلفاء الراشدين كأنه دولة، ومع الشورى كأنها مجلس شيوخ أو مجلس نواب، وخلافة النبي بعد وفاته كأنها نظام حكم إسلامي قائم بذاته. (ص 132) فالإسلام السياسي حول التدين الجماهيري المعروف بالتدين الشعبي المتصالح مع الواقع والأعراف إلى نمط تدين جماعاتي يريد استرجاع “دولة الخلافة”. لهذا تصوراته المقارنة للحداثة جعلت منه إسلاماً متخيلاً، جمع بين الحداثة والتقليد في صورة مثالية غير ممكنة، وبتعبير وائل حلاق يستحيل استرجاع الخلافة الإسلامية وفقط تصور دَولاتي للمجتمع المعاصر.

  1. خاتمة

عندما يتحدث بشارة عن فشل التحديث والموقف السلبي للسلفية من الحداثة فإنه بذلك لا يحمل المسؤولية للنص الديني أو للتاريخ الإسلامي، بل يحمل المسؤولية للحداثة في عدم استيعابها لأنماط من التدين الأرثودوكسي وفي عدم قدرتها على إنتاج أنماط متصالحة مع الواقع، كما أنها لم تستطع ادماج الحركات الدينية وسط المدينة العصرية. كما أن الحداثة متمحورة حول العقل الغربي وتغفل الحضارات المجاورة. لهذا وجود الانتكاسة والطلب على الرجوع إلى الأصول الأولى في ملمح لإعادة انتاج الهوية والطائفة المتخيلة يتم في مواجهة تطورات العصر وتغيراته المفاجئة، وهي محاولات للتمسك بالماضي في عدم وجود ضمانات ومحفزات راهنة.

إن محاولات البحث في الأصول هي محاولة إعادة انتاج المجتمعات القديمة في مواجهة التحديث المتسارع، بل هو تطهير للأصول مما علق بها، هي محاربة لكل تجديد واجتهاد طرأ على الدين، هو رفض للحاضر ومحاولات الرجوع للماضي والتمسك به. يتم هذا الأمر عندما يرى المؤمن أنه يعيش تحت الضغط والتهديد دون اطمئنان لمنجزات الحداثة وفهم لها، كما يحاول الحفاظ على هويته بوصفه شعباً خالصاً نقياً بالرجوع إلى الجماعة الأولى الحاضنة في وجود تهديد لكينونته.

وهذا ينطبق بالأساس على الحركات السلفية التي نشأت عند المتضررين من الحداثة التي جسدها الاستعمار والدولة الوطنية وعمليات التحديث. حيث تلعب الظروف الاجتماعية دوراً مهماً في ظهور سلفيات نشأت في المدن الصغرى التي فشلت فيها مشاريع التنمية. لكنه حسب بشارة لا تنطبق ذلك على “حالة محمد بن عبد الوهاب الذي انتشرت دعوته على الهوامش في صحاري نجد من نوع من احياء الدين القويم بين القبائل حيث يضعف الدين”. (ص 131)

يعزز هذا الطرح ما ينظر له أيضا عزمي بشارة في كتب أخرى خصوصا كتابه “الدين والعلمانية في سياق تاريخي“، بكون المسارات التي أخذتها العلمنة في العالم العربي لم تتم بالشكل الصحيح، وأن ظهور حركات الإسلام السياسي هو فشل في برامج التحديث، وأن الجماعات الدينية ليس جوهر ثابت لا يتغير ولا يتبدل، فالدين ليس جوهراً عابراً للتاريخ والثقافة. لا يمكن القول بأن الدين عنيف بطبعه ولا بأنه داع إلى السلام بطبعه، فالدين ظاهرة اجتماعية خاضعة للتحول بحسب الظروف التي يمر بها أتباعه.  لقد حُددت العلمنة في الماضي بكونها نتاج مسار تاريخي تنفصل بموجبه أعداد متزايدة من الأنشطة البشرية عن تأثير المؤسسات الدينية وعن سلطة المقدس، إلا أن النظريات الجديدة التي كتبت حول عود الديني ورجوع المقدس، نظرت لعلمنة جديدة تم تحديدها باعتبارها صيرورة تاريخية تمس مجالات اجتماعية متعددة، كما تمس الفكر الإنساني، هي عملية التمايز المستمرة بين قطاعات، وهي نوع من القبول للدين في الفضاء العمومي.

رغم أن بشارة يرى أن ظهور السلفية هي مسؤولية الحداثة إلا أنه يفرق بين الحداثة السياسية والحداثة الاقتصادية، فالبيئة الاجتماعية البدوية هي من أنتجت الوهابية في زمن محمد بن عبد الوهاب بينما أخفق في زمن ابن تيمية، حيث وجد في عهد ابن تمية دين مؤسساتي ونظم ومؤسسات سياسية قوية. نادى ابن تيمية “بالفكرة في بيئة حضارية فلم تنجح بينما نادى محمد بن عبد الوهاب في بيئة بدوية فنجحت نجاحا عظيما”. (ص 189) أيضاً يرى بشارة أن داعش ظهرت في بيئة بدوية وفي بيئة اجتماعية غير مستقرة.

في دول عربية كثيرة منها المغرب استطاع النظام السياسي بعد الاستقلال أن يوازن بين التيار العلماني والتيار الإسلامي، بإنتاج نمط من التدين الرسمي يراعي التعددية والاختلاف، يؤطر الفقهاء والمرشدين الدينيين في المساجد ويفرض رقابة على المساجد، كما يتبنى اصدار الفتوى وتأطير الجماهير في القضايا الدينية الكبرى، بذلك منع ظهور الحركات الدينية العنيفة.

رغم أن السوسيولوجيا تفرق بين الدين والتدين، وترى أن التدين هو نتاج مجتمعي محض وليس وحياً خالصاً، إلا أنه عندما يتعلق الموضوع بالعنف الديني أو السلفية أو الحركات الإسلامية فإنه يربطون التدين بالنص الديني مباشرة وليس بإخفاق التحديث سواء الاجتماعي أو السياسي في احتواء الوضع. قسمت الدراسات الكولونيالية بين تدين البادية وتدين المدينة، التدين الأول تدين شعبي متصالح مع الواقع ولا يحمل أي عنف اتجاهه يقوم على الوساطة وتقديس الأولياء، والثاني هو تدين أورثوذوكسي تمركز في المدن بسبب احيائية العلماء والفقهاء والنخب البرجوازية. وبالتالي دائما ما وجد نمط من التدين الجوهراني الذي حافظ على نفسه بالرجوع إلى الأصول الأولى.

يمكن القول أخيراً أن السلفية هي فشل سيرورات التحديث في العالم العربي، فالمنتمون إلى القاعدة لا ينحدرون بالضرورة من أصول فقيرة أو ريفية لم تستوعبها المدينة وسلفيات كثيرة ظهرت في مدن جد متطورة. وأيضا فشل العلمانية في بعض الدول الغربية مثل فرنسا جعلها لا تستطيع استيعاب بعض الحركات الدينية. كما أن السلفية تقبل بمنجزات الحداثة وتقبل بالعلوم في جانبها الأداتي مفصولة عن القيم التي رافقت تشكلها، وعن التنوير وتحكيم المنهج العلمي في شؤون المجتمع والدولة. كما لا يتعلق التطرف في الدين لدى بعض القيادات السلفية بطرق فهم خاصة للدين، بل قد يكون بسبب الظلم والإذلال والحرب، والسجن كما وقع مع السيد قطب. إذن السلفية هي حركات حديثة نشأت بفعل مشكلات المجتمع الحديث، فكانت ردة فعل عليه برفضه عقائدياً مع استخدام منجزاته أداتياً.

 

التعليقات

اظهر المزيد

د. عبد الرحيم بودلال

باحث مغربي، متخصص في علم الاجتماع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *