الفكر المقاصدي: “قضايا وإشكالات”، حوار مع أ.د. إسماعيل الحسني.
الفكر المقاصدي: “قضايا وإشكالات”، حوار مع الأستاذ إسماعيل الحسني.
حواره د. مصطفى فاتيحي، جامعة القاضي عياض.
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الفكر المقاصدي بشكل ملفت للنظر، إلى درجة يمكن القول معها أن الأمر أصبح (موضة للعصر) مما يستدعي مساءلة هذا الإقبال من حيث المنطلقات والأسس العلمية والآفاق المستقبلية، وما يطرح من إشكالات مُمضَّة، ويتعلق الأمر بتقحم لجته من طرف من لم يحصلوا ما يؤهلهم للحديث فيه، وكذا مشكل الاجترار والتكرار، وعدم الاقتدار على إبداع سبل ناجعة للأجرأة والتفعيل، والانحسار في الطواف في فلك التأصيل والتنظير والإغراق في العموميات، وعدم امتلاك الجرأة على استئناف النظر في كثير من المسائل المنهجية والعلمية، فضلا عن عدم ملامسة القضايا الحارقة والظواهر المتشابكة على المستوى الاجتماعي والمدني والاقتصادي والسياسي. وتتناسل عن كل إشكال من الإشكالات السابقة أسئلة فرعية من قبيل علاقة الفكر المقاصدي بالمسألة القيمية، وعلاقة الفكر المقاصدي بالتكامل المعرفي والاجتهاد والتجديد، والتأطير البيداغوجي.
ولتجلية هذا الموضوع وتسليط الضوء على عناصره والوقوف عند تمفصلاته من أجل تنوير القراء، نحاور أحد الخبراء الأكاديميين وهو الدكتور إسماعيل الحسني الذي عرف بتجربته الواسعة في هذا الميدان وأحد المراجع المعتبرة من خلال إنتاجاته الغزيرة واهتماماته الواسعة واشتغاله مدة طويلة بالدرس المقاصدي تنظيرا وتأليفا وتدريسا، باعتباره أستاذا للتعليم العالي مادة أصول الفقه ومقاصد الشريعة بجامعة القاضي عياض مراكش.
وهذا ما يعطي للحوار معه طابعا خاصا وإضافة علمية وازنة.
س1: بداية الأستاذ الفاضل هل لكم تقربوا لنا مفهوم مقاصد الشريعة والفكر المقاصدي؟
مقاصد الشريعة مفهوم مركب يتحدد في المعاني المقصودة من الخطاب الشرعي التي يتوصل إليها باستحضار المقام الذي سيق فيه الخطاب، و الغايات المصلحية المقصودة من تشريع الأحكام التي ينطوي عليها هذا الخطاب.
يبدو من هذا المفهوم المقاصدي أننا إزاء نوعين من المقاصد: 1 مقاصد الشارع من خطابه، و هي الدلالات التي يقصدها الشارع من ألفاظه. أي ما يسمى بمقصود الكلام من الآية القرآنية أو الحديث النبوي. 2 مقاصد الشارع من أحكامه، و هي الغايات المصلحية التي يهدف الشارع إلى تحقيقها من تشريع الأحكام. والفرق بين هذين النوعين من المقاصد راجع إلى طبيعة كل واحد منهما على حدة. فمقاصد الشارع من خطابه ذات طبيعة خطابية، إذ تستند إلى مبدإ الإفادة من مقام الخطاب. أما مقاصد الشارع من أحكامه فذات طبيعة تقويمية إذ تنهل من القيم الأخلاقية التي تقيد المصالح التي جاءت أحكام الشريعة لتحقيقها.
وصفنا للفكر بأنه مقاصدي مستمد من تشبع صاحبه أولا و قبل كل شيء من هذين النوعين من مقاصد الشريعة، ولكن هذا التشبع ليس مجرد شعار نرفعه، وإنما هو ممارسة تستند إلى عدة منهجية تقدر صاحب هذا الفكر على اكتشاف مقاصد الشريعة وعلى إعمالها في اجتهاده. و عليه إن أهم ما في هذا الذي نسميه فكر مقاصدي هو تضمنه، بهذا القدر أو ذلك، لتلك العدة لأن مادة “الفكر”، وبغض النظر عن استعمالاتها المختلفة في اللغة العربية ، هي أنها فعل ذهني مرتبط بالذات الإنسانية كذات مفكرة تريد الوصول إلى “حقائق” مخصوصة. فالفكر الإنساني، من زاوية معناه النظري والذهني، مبني ومشكل في معظم أحواله من إعمال جملة من المبادءى الأخلاقية وغير الأخلاقية والعمليات الذهنية-النظرية التي قد تتبلور وتنصهر في بوثقة مفاهيم تسهم، بهده الدرجة أو تلك في تكوين العدة العلمية التي تستثمر وتوظف في بناء الفكر المقاصدي. فهذا الفكر يروم صاحبه التشبع بمقاصد الشريعة و وينشد صاحبه الإفادة منها، ولكن لا يتأتى له ذلك بدون التمكن المنهجي والتطبيقي لها في اجتهاده.
و عليه إن الفكر المقاصدي هو الفكر الذي يمتلك موضوعه، لأنه لا ننسى أن الممارسة العلمية لا تفضي بنا فقط إلى المعرفة الجزئية بتفاصيل الموضوع من خلال تقنياتها فحسب، وإنما تجمع جمعا جدليا بين الإحاطة بالتفاصيل و بين القدرة المستمرة على بناء النظرة الشمولية التي تمكننا من االعلم بالعلاقات بين عناصر الجزئيات و التفاصيل. و هو ما يتمكن منه المفكر المقاصدي من خلال ما يمتلكه و ما يبدعه من مفاهيم. و المفاهيم في العلم بصفة عامة، وفي علم الشريعة خاصة، ليست جامدة، ولا ثابتة لأننا إذا اكتشفنا أن مفهوم ما غير صالح وغير متطابق مع واقع المعرفة الموضوعية، فإن المطلوب دائما وأبدا، هو البحث، وإبداع مفهوم آخر، وليس حصر واقع االموضوع في المفهوم. وعليه لا يكفي، انطلاقا من هذا الفهم للفكر العلمي، أن نقول و نحصر الفكر المقاصدي في قول الأستاذ الريسوني: إنه” الفكر المتبصر بالمقاصد، المعتمد على قواعدها، المستثمر لفوائدها”[1]. فعلى الرغم من إشارة صاحب هذا التعريف أستاذنا الذكية إلى أهمية القواعد في بناء الفكر المقاصدي، يبقى هذا التحديد قاصرا و غير واضح بدون اقتران هذا الفكر بقدرة صاحبه على بناء المفاهيم وإعمالها في الاجتهاد، الذي هو علم تطبيقي بالدرجة الأولى. وعلى كل حال بقي أن نضيف إن المهم في هذا الفكر هو ما يمكن أن ينطوي عليه من إمكانات علمية فيها من المبادئ والتقنيات، بقدر ما فيها من المفاهيم التي تمكن من التطبيق السديد لما فهمناه من الشريعة ومن الواقع على الواقعات المستجدة بحسب المصالح المقصودة شرعا.
س2: يعد الأستاذ إسماعيل الحسني من الرواد المعاصرين في الفكر المقاصدي الذين قدموا أطروحات وازنة في الموضوع، من خلال تجربتكم ما هي الوظائف العلمية والمنهجية للفكر المقاصدي؟ وهل لهذا الحقل المعرفي خصوصية ابستمولوجية بالمقارنة مع باقي العلوم الشرعية؟
الفكر المقاصدي فكر ينشغل صاحبه بالاجتهاد في تحصيل الفهم و التنزيل، أعني أن المفكر المقاصدي الجدير بالانتماء إلى أهل الفكر المقاصدي منشغل بأمرين مفصليين:
أولهما: الفهم السليم للشريعة ولواقع المكلفين بأحكامها. و في هذا الأمر نميز بين ثلاثة مجالات:
- مجال الاجتهاد في فهم مقاصد الخطاب الشرعي:
الاجتهاد هو استفراغ الوسع في النظر إلى الشريعة باعتبارها بناء متعاضدا، بناء ينقل المسلم و بالأحرى الفقيه والعالم المسلم من فكر المصادفات إلى فكر علمي يقوم على إدراك واكتشاف العلاقات بين الخطابات الشرعية.. و هو بناء يتكون من عنصرين رئيسين: عنصر الإفادة من المقام، و عنصر مراعاة الاتساق، و هما عنصران متشابكان يكونان مفهوم التعاضد.
- مجال الاجتهاد أيضا في فهم مقاصد الأحكام: لأنه به يتوصل إلى علل الأحكام الشرعية التي يستدل بها على أحكام الحوادث غير المنصوصة في خطابه. لا بد للمجتهد أن يعرف علة الحكم ليعرف كمال المقصد المصلحي من تشريع هذا الحكم أو ذاك. وللتعليل في الاجتهاد مسالك في إثبات العلل، وطرق متعددة في كشفها، لا يسع الفقيه المعلل للأحكام إلا التمكن التام من مباحثها وإشكالاتها التي بسطها علماء أصول الفقه.
- مجال فهم واقع المكلفين بالشريعة: اختلفت عبارة علماء الإسلام في التعبير عن هذا المجال، بحثه علماء الأصول ضمن مباحث العلة، و قصدوا به تحقيق المناط، و بحثه بعض المحققين كابن القيم في سياق ما سماه ب”بفهم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما”. و بحثه و اصطلح على تسميته ب: ” العلم بالموضوع على ما هو عليه”. و قد خاض الكثير في ما يسمى بفقه الواقع، لكن لا تشي معظم المعالجات العلمية لهذا المبحث العلمي المميز بوعي نقدي يتضافر على بنائه الماضي و الحاضر و المستقبل. الماضي بكل ما ينطوي عليه من إرث ثقيل، و الحاضر بكل ما يكتنزه من رجاء ، و المستقبل بكل ما يحمله من افتراضات و استشرافات.
و بغض النظر عن ما سبق فإن للواقع مفهوما مركبا من معطيات متعددة يتشابك في بنيتها عناصر الحال والزمان والمكان والأشخاص والمآل. أعني أن الواقع مفهوم مركب من عناصر متشابكة، يتداخل فيها ما هو إنساني بما هو زماني، وينصهر في بوثقته ما هو مكاني بما هو معرفي. ومن ثم إن ما أعنيه بواقع المكلفين بأحكام الشريعة جملة من البنيات المتداخلة والعلاقات المتشابكة التي يركبها فكر العالم وهو بصدد فهم موضوعه. وتركيبه البنيوي والعلائقي تزداد واقعيته وتتطور بحسب سيرورة المعرفة الإنسانية، وبحسب مبلغ فهمه لواقعه وبحسب درجة تقدم كسبه العلمي. على هدي من هذا المفهوم للواقع أدرك المغزى والمقصد من عدم تنصيص الشريعة على حكم كل حادثة جزئية على حدة؛ وإنما أتت في معظم نصوصها بأمور عامة وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر من الجزئيات. وذلك ما أدركه الإمام الشاطبي رحمه الله عندما اعترف بأن “لكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين، وليس ما به الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق ولا هو بطردي بإطلاق ،…فلا يبقى من الصور الوجودية المعينة إلا و للعالم فيها نظر سهل أو صعب”[2]. الاجتهاد هنا تحرر مستمر من النظرة البسيطة للواقع الإنساني بصفة عامة وللواقع الذي يحتضن الوجود الدنيوي للمكلفين في الإسلام والحق أن واقعنا الإسلامي – شأنه في ذلك شأن أي واقع بشري و إنساني –لم يكن ولن يكن في يوم من الأيام بسيطا؛ وإنما هو دائما مركب تتداخل في بنائه عناصر متشابكة من الزمان والمكان والأحداث والمآلات والقيم. كلها عناصر تتناسب درجة تركيبها مع مستوى قدرتنا على كشف علاقاتها المتوارية عن الأنظار، وتتناسب في الوقت ذاته مع درجة قدرتنا على كشف منطقها الداخلي.
والثاني: التنزيل السليم، و أعني به تنزيل ما فهمناه على نازلات الواقع، أي تنزيل ما فهمناه من مقاصد الشريعة سواء كانت مقاصد خطابية أو مقاصد مصلحية، و تنزيل ما فهمناه من الواقع الذي نزلت في سياقه النازلة، تنزيل ما فهمناه منهما كل ذلك على واقعة من الواقعات المستأنفة في حياة المكلفين الفردية و الجماعية والمجتمعية … و لا يكون الفهم السليم بدون مراعاة مقاصد الشريعة من خطابها ولا يكون الفهم السليم بدون مراعاة مقاصد الشريعة من أحكامها. و لا يكون الفهم السليم لواقع المكلفين بدون فهم بنيته المركبة التي لها تاريخ. و لا يكون التنزيل سليما بدون أن يسبقه فهم سليم للشريعة و للواقع. فالموفق من المجتهدين، و الموقع منهم عن رب العالمين كما قال ابن القيم، هو الذي يكون موفقا ومسددا في تنزيل ما فهمه على مواضعه الحقيقية. ومن ثم إن التنـزيل جهد علمي مستأنف، لا يفتأ صاحبه عن القيام بالمراجعة والتعديل، والنقد والتحقيق.
يتحدد الحقل العلمي للفكر المقاصدي من خلال النظر المنهجي في مجالات الفهم والتنزيل لأن منه تستمد خصوصيته، وهي على كل حال خصوصية تمثلها كتابات المفسرين والفقهاء، فقهاء الفروع وفقهاء الشريعة عامة، فضلا عن ما كتبه الأصوليون. وقد أشار إلى أمر معتبر من هذا الشيخ عبد الله دراز رحمه الله عندما قال: إن لاستنباط الأحكام ركنين: أحدهما التبحر في علم اللسان العربي، وثانيهما التمكن من العلم بأسرار الشريعة ومقاصدها. فالدرس الأساسي من الفكر المقاصدي درس نقدي، يحمل صاحبه على الاحتكام إلى ما تقتضيه الروح العلمية من موضوعية، ونزاهة، واستقامة فكرية، وتحرر من كل تعصب. فلا يكون حال الفقيه، كحال صاحب ابن عرفة الذي قال في حقه: ما خالفته في حياته فلا أخالفه بعد وفاته. كما أن لهذا الفكر ارتباطا عضويا ووثيقا بعلم الأصول لا كما كتب فيه ابن حزم، و إنما كما كتب فيه جمهور الأصوليين خاصة أهل المقاصد منهم.
وعلى كل حال هذه وجهة نظر أسهبت في بيانها و الدفاع عنها من خلال كتابي نظرية المقاصد الصادر عام 1995م و من خلال كتابي أيضا فقه العلم في مقاصد الشريعة الصادر عام 2004م.
س3: كيف يمكن تقييم مآلات وطبيعة الإنتاج العلمي في هذا الميدان اليوم؟ هل فعلا أصبح الاشتغال بمقاصد الشريعة مجرد موضة عصرية؟
الفكر المقاصدي ليس مجرد شعار نرفعه، و لكنه ممارسة اجتهادية تقوم على امتلاك صاحبه للنظرتين: النظرة الشمولية للشريعة ولواقع المكلفين بها، و هذا أمر يتفاوت المجتهدون والمفكرون في تحصيله، والنظرة النقدية أو إن شئنا التعبير بدقة النظرة التي تقوم على هذا الذي نسميه بمفهوم التمايز الفرقاني، وهو التمييز المبني والذي تثمره التقوى في المجالين : المجال العملي الأخلاقي والمجال النظري العلمي. وما تثمره التقوى في المجالين هو الوعي بسنن الموضوع الذي يقاربه الفقيه المفكر، فضلا عن التمكن من قوانينه بحسب ما هو عليه واقع هذا الموضوع. يبدو من طرحنا السنني للفرقان الذي يجنيه المتقون دلالته ليس فحسب الأخلاقية، وإنما دلالته العلمية. دلالة علمية تجعل مفهوم التمايز الفرقاني مؤصلا على التعميم الذي يشفع له التدقيق، لأن هذا التأصيل هو الذي يصور هذا المفهوم في صورة الملكة العلمية التي تقدر صاحبها على التمييز بين المراتب المعرفية وبين المتغيرات الوجودية وبين القيم والمصالح المتعددة كالتمييز في الواقع وفي وقائعه بين قيم الحق والباطل وبين قيم الضرر والنفع وبين قيم العدل والظلم وبين قيم العسر واليسر. نظرتان لا يبنيهما المرء بين عشية وضحاها كما يقال، ولهذا موضوع هذا الفكر ومنهجه والهدف المبتفى منه أشرف وأدق وأسمى من أن يكون موضة من الموضات العابرة.
س4: ما هي برأيكم القضايا الحارقة التي يمكن للدرس المقاصدي أن ينكب على مدارستها؟
قضايا الوقت الحاضر التي تتطلب الدراسة المقاصدية كما وصفنا مقتضياتها كثيرة، تشمل كل ما له علاقة بالإسلام و بحياة المتديننين به من معظم النواحي الاعتقادية والأخلاقية والتشريعية والفلسفية والعلمية والفنية. فعلى سبيل المثال نحتاج إلى العدة المنهجية للدراسة المقاصدية وامتلاكها واستيعابها في دراساتنا لنوع العلاقات التي تربط القرآن الكريم بالسنة النبوية، وللمقامات التي سيقت فيها السنة النبوية، ونحتاج هذه الدراسة المقاصدية المحررة على النظرتين الشمولية والنقدية:
نحتاج احتياجا كبيرا إلى التمكن من النظرة الشمولية التي تجعلنا نراجع المقامات التي سيقت في إطارها نصوص و خطابات الشريعة، فضلا عن الأفهام الموروثة ثم قيياسها دائما بمقاصد الشريعة في جلب المصالح و درء المفاسد. نلاحظ أن البعض يتجه إلى أفهام مخصوصة فيبتـرها عن أسباب ورودها وعن أسباب نزولها ،ثم يطبقها على مقامات مغايرة بدون اجتهاد في التكييف ولا جهد في التحقيق. و هذا واضح في دعوى البعض الجهاد وفي فرضه الجزية على الأقليات الدينينة…
نحتاج إلى الجمع جمعا متوازنا بين النظرة الشمولية والنظرة النقدية عند معالجة فقهائنا لكثير من القضايا كتقنيات الجينوم البشري وما تطرحه، وما يطرحه واقع التلقيح الصناعي والرحم المستعارة والتهجين وشهادة الجينات في تناكر الزواج، وما يطرحه واقع القضايا الاقتصادية وتحديات المضاربة وتسليع النقود وتسيل العروض وسرعة الرواج و المداولات في الأسواق وإبرام الصفقات في المراكز الاقتصادية العالمية، فضلا عن ما تعرفه مشاكل الأسرة العصرية وقضايا بداية أشهر العبادة ونهايتها في كل سنة وواقع إرسال الناس إلى الكواكب بعد أن كان البعض يعتبره كفرا انطلاقا من مفهوم الصعود إلى السماء المذكور في نواقض الإيمان لقول خليل: ” أو ادعى أنه يصعد السماء أو يعانق الحور”.
نحتاج إلى الدراسة المقاصدية التي ترسخ للفكر العلمي في فهمنا لشريعتنا ولواقعنا، نحتاجها في دراسة مجالات الدولة ومجال العلاقات الدولية ومجال الاقتصاد والمالية، والمجال العلمي، و المجال الاقتصادي، لأن تغايرات عميقة حصلت في الواقع، إذ في الربع الأخير من القرن العشرين حلت محل الدولة المتدخلة الدولة الباحثة عن جذب الاستثمارات الأجنبية والراغبة في تسهيل الإصدارات الوطنية، كما حل محل هذه الدولة الشركات التي تندمج تصاعديا في مجموعات عابرة للقارات، وتستند إلى تقنيات علمية جديدة أسفرت عن أسر وتفكك مجتمعات وتسريح الملايين من العمال. و كلها قضايا سبق لي أن أشرت إلى ما يماثلها في قراءتي لكتاب الشيخ عبد الله تنبيه المراجع. (ينظر العدد 1 من مجلة الموطأ 2018م).
س5: كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن ضرورة الاجتهاد والتجديد والحاجة إليه، ما علاقة ذلك بمقاصد الشريعة؟
الاجتهاد – كما بينا- اجتهاد مقاصدي في الفهم وفي التنزيل، ولا يكون الاجتهاد اجتهادا مقاصديا إلا إذا اتسم بالتجديد في الفهم وفي التنزيل. نعم ثمة علاقة وطيدة بين الاجتهاد المنسوب إلى مقاصد الشريعة في قولنا الاجتهاد المقاصدي بالتجديد، صحيح هذا الربط ولكن بشرط توضيح ما نعنيه بالتجديد، لأن التجديد الذي نتوسل إليه بالاجتهاد المقاصدي أعمق من مجرد عمل إحيائي للعمل والعلم في الإسلام، كما أنه أدق من مجرد استرجاع لما كان عليه الدين الإسلامي حتى يظهر في صورة تماثل بحسب هذا الفكر أو ذاك. الصورة التي كان عليها في عهد النبوة والرسالة المحمدية والخلافة الراشدة، وهكذا إن ما نعنيه بالتجديد هنا هو الوعي المستأنف الذي لا يتحقق بدون امتلاك نظرية نقدية.
نظريتنا النقدية التي يقوم عليها التجديد تقول أو تريد أن تقول بضرورة الوعي النقدي المستأنف الذي يبنيه المجتهد المسلم في فهمه للشريعه ولواقع المكلفين وفي تنزيله لما فهمه منهما على واقعة من الواقعات المستجدة. فالوعي النقدي المستأنف من خلال هذه النظرية النقدية مكون من ثلاثة عناصر متداخلة ومتشابكة: أولها عنصر الوعي النقدي والمستأنف بالذات، وما يستلزمه من مراجعة ومحاسبة، والثاني عنصر الوعي المستأنف بالواقع، والرابع عنصر التفاعل المستانف مع معطيات الواقع .
لا يتحقق الاجتهاد المقاصدي في الفهم السليم للشريعة وللواقع وفي التنزيل السليم لنتائج الفهم على الواقعات المستجدة بدون وعي نقدي بالذات نلتفت عبره إلى الماضي من أجل القيام بمحاسبة و مراجعة ما أنتجه غيرنا. فالاجتهاد في الإسلام علم يأخذه صاحبه على مأخذ الوعي المستقل بالذات، لأنه يتبع الدليل ويحتج بالبرهان دائرا معهما حيثما دارا. يقتضي هذا الوعي مراجعة تصورنا عن الفقيه في معظم ثقافتنا الموروثة، لأن الذي ساد فيها أنه الحافظ للنصوص المروية، والمزود بعدد معين من الآراء المنقولة، والمرويات المأثورة والفهومات المشهورة.
التجديد في ضوء الاجتهاد المقاصدي، هو وعي مستأنف بالواقع يقتضي التفاعل مع معطياته، بيان ذلك أنه يستحيل أن يبقى المجتهد بمنأى عن معانقة أنواع من الطوارىء، مغريات كانت أو شهوات غريزية، مستجدات دنيوية كانت أو بدعا دينية. يأتي في هذا السياق حتمية التفاعل الإيجابي مع معطيات الواقع وبينات الحاضر. وإن علم المجتهد ببيانات حاضره ومعطيات واقعه ذو سقف محدود في الزمان، ومرسوم في المكان لأنه لا تتوقف تغيراته، إذ له بداية ونهاية، شبيبة وهرم ، محيا وممات …إننا – وكما قال الفيلسوف اليوناني هرقليطس 540-480 ق م- لا نستحم في النهر مرتين لأن النهر قد تغير ماؤه.
والحاصل أن أهم ما في النظرية النقدية التي يقوم عليها التجديد المرتبط بالاجتهاد المقاصدي هو بعدها النسبي لأننا إذا اعتبرنا النظرية النقدية التي تشكل قوام مفهوم التجديد في الإسلام “كاملة” ، وإذا توقفنا عن تحقيقها المستمر والمسأنف تحولت إلى مذهب وثوقي وفكر ميت، وهذا ما لا يتسق مع الخاصية الأساسية للعلم بصفة عامة، والمتمثلة في قابليته للاعتراف بالأخطاء، وفي نهوضه المستمر بالمراجعة والمحاسبة. وعليه فإن الدرس المستخلص من التجديد في النظرية النقدية عدم توقف التجديد الاجتهادي في الفهم والتنـزيل. (يراجع لمزيد من التوسع في هذه النقطة كتابي فضاء القراءات وبناء المفاهيم الصادر عام 2016م).
الهوامش: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الريسوني، أحمد، الفكر المقاصدي، قواعده وفوائده، الدار البيضاء مطبعة النجاح 1999، ص 35.
[2] – الشاطبي، أبو إسحاق، الموافقات في أصول الشريعة، بيروت، دار المعرفة، ج1 ص 92.
التعليقات