صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العلم يقبض بقبض العلماء، ويصح أن نقيس عليه أن الفكر يقبض بقبض المفكرين. وإذا كان العلم أساس الفكر، فإن الفكر صياغة ثانية للعلم بحسب التحدي القائم زمانا ومكانا. فهو أشبه بالفقه في مجال الاحكام، إلا أنه في مجال المعرفة والآراء والنظريات. فقبل بضعة شهور ودعنا عالم جليل نذر نفسه للعلم والتعليم، والتوجيه والتأطير في العلوم الشرعية عموما وفي تحقيق المخطوطات خصوصا، إنه الشيخ العلامة محمد بوخبزة رحمه الله وتقبل منه. ومنذ يومين ودعنا مفكر كبير من العيار الثقيل، غطى مساحات معرفية كثيرة، وخاض سجالات وحوارات نظرية كثيرة، وأعطى قدوة وقدرة متفردة في الجمع بين العلوم والمعارف، دينية وإنسانية وعقلية ومناهج بحث مختلفة، ولهذا تنوع عطاؤه كما وكيفا. وهذا نموذج المفكر العالم، أو العالم المفكر، المطلوب في عصرنا الراهن. الذي يجمع بين علوم الدين والدنيا، ويستحضر ماضيه من أجل حاضره ومستقبله، له قدرة على التركيب والدمج بين العلوم والمعارف، منفتح كل الانفتاح على الخبرات والتجارب البشرية. فهؤلاء قلة في الأمة للأسف ولم يتخرجوا من تكوين أو تعليم نظامي أو مؤسسي، بل بعصامية فردية شقت طريقها بإصرار وسط منظومات التقليد والجمود، والرتابة والسكون، والتكرار والاجترار، علما أن كل مفردة في الدين تنبض بالحياة وتدعو الى الحركة، ومثلها كل مفردة في الكون كذلك. والمفروض في الانسان المستخلف الوسيط بينهما، أنه مكلف بالسعي والاعمار، والتفاعل مع الكون والكائنات، وابصار آيات الله في الآفاق وفي الأنفس المعادلة لآياته في النص. فلما انقلب هذا الميزان، ابتلي المسلمون بداء التقليد الذي غدا عندهم أصلا وقاعدة وإنما كان استثناء، واستحال الاجتهاد لديهم فرعا واستثناء وإنما كان لديهم اطرادا بين أهل العلم والنظر.
لكل الأمم الناهضة مؤسسات تدعم التفوق والاجتهاد، وترعى المتفوقين والمجتهدين في سائر الحقول والمجالات، وتخصص أكبر دعم ممكن للتكوين والتربية وللعلم والبحث والمعرفة، لكن في معظم بلاد المسلمين الأمر يختلف، وطبعا ليس لذلك من نتيجة إلا التخلف.
إن غياب مفكر عالم وموسوعي مشارك، مثل محمد عمارة، الذي لا يكاد يخلو بحث أو كتاب من الاستشهاد به، حتى لدى كبار الفلاسفة والمؤرخين، فضلا عن الإصلاحيين، إذ استطاع الرجل أن يضع بين يدي الجميع أعمالا كاملة وتحقيقات يصعب الوصول اليها الا بعد جهد وتنقيب؛ ليطرح على الامة سؤال: كيف نكون المفكر؟ وما المؤسسات الكفيلة بهذا الضرب من التكوين؟ والمقررات اللازمة لذلك؟
تماما كما طرح سؤال الاجتهاد قديما، وهل يخلو الدهر من مجتهد قائم لله بالحجة؟ لما ندر وقل المجتهدون في الأمة.
معظم تكويننا، وحتى لدى مؤسسات المركزية الغربية للأسف، هو تكوين أحادي الوجهة، يشبه حركة وحيد القرن الذي لا يكاد يلتفت يمنة ويسرة إلا بصعوبة. نعم يتقدم التكوين والبحث في خط عمودي تخصصي مستقيم، لكنه يغفل حقيقة أن الوجود والانسان كائنات مركبة ومتعددة الابعاد، وأن التقدم الأفقي وتكامل المعارف المصاحبة للعلم هو الأنفع والأسلم للبشرية. وها نحن نرى أن الافراط في تخصصات كثيرة معينة لم تجلب السعادة للبشرية بقدر ما جلبت الشقاء والهلع لهم، وأدخلتهم حروبا نووية وتقنية وبيولوجية وجرثومية، كلها فساد في الأرض وهلاك للإنسان. كما أورثت آخرين الجدل والكلام والمراء الذي لا عمل تحته.
أعتقد أن ذلك مما ينبغي أن نستفيده ونعيد طرحه كل مرة مع سنة القبض للعلماء والمفكرين رحمهم الله جميعا، فإنهم وإن تركوا آثارا ولم تجد كفؤا أو نظيرا لها في العناية والتطوير ضاعت.
التعليقات