الفكر المقاصدي وفقه الأولويات
جرت سنة الله في الأمر التشريعي ألا يكون مصالح محضة أو مفاسد محضة فيما يتعلق بأمور الدنيا، وذلك لنسبية الزمان ونسبية المكان والحال والإنسان، وهذا ما يَجعل الأحكام المطلقة في دائرة المتغيرات –مع ما يباشرها من الفعل الإنساني في أعرافه وعوائده- صعبة المنال عزيزة الوجود، وقد انبنى على هذا كون طبيعة التشريع وما يتربط به من أحكام ومقاصد تتفاوت في قوتها التشريعية، وفي مقومات ما يبنى عليها من مصالح عظمى، أو يدرأ بها من مفاسد كبرى وكل ما يرتبط بذلك من مرونة ويسر، أو تقديم أو تأخير، أو مراعاة ما يستدعيه الموقف المرحلي التكتيكي أو المبدئي الاستراتيجي أو فقه موازنات أو تدرج ومرحلية، أو سننية. وكل ذلك يشكل في كله منهجاً كليا يؤسس لفقه الأولويات، الذي استفيد من استثمار نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تصنيفاً وتوظيفا، واستخلافا عمرانيا وحضاريا.
أما القرآن الكريم فقد أشار الله عز وجل في غير آية إلى هذا المنهج قال تعالى: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)[1] وقال سبحانه: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون)[2] وقوله: (ما كان لنبيء أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم)[3] وقوله في سياق الصوم: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم)[4].
ووجه القرآن الكريم خطابه إلى نفي التسوية بين السقاية وعمارة المسجد الحرام من جهة، وبين الإيمان به وباليوم الآخر والجهاد من جهة ثانية، فقال عز وجل: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله)[5].
وهي آيات بمجموعها توجه العقل نحو تحقيق الأصلح فالأصلح، والأهم فالأهم، والأحسن فالأحسن.
وأما من السنة النبوية فقد كان المنهج الإجرائي لفقه الأولويات قائما ليس في أفعال جزئية أو أحداث فرعية، أو نوازل واجتهادات فردية فقط، ولكن على تخطيط وتبصر مستقبلي، وتدبير تكاملي مستوعب لخصوصيات كل مرحلة على حدة، وللمناخ الثقافي والاجتماعي والبيئي والعرفي المؤسس على علم وبصيرة بعيداً عن الارتجالية والاعتباطية: مقومات المرحلة المكية، ومقومات المرحلة المدنية، ما قبل الهجرة وما بعد الهجرة، ما قبل تأسيس الدولة وما بعد تأسيس الدولة، ما قبل صلح الحديبية وما بعد صلح الحديبية، ما قبل الفتح وما بعد الفتح، ما قبل مرحلة الدفاع عن النفس وما بعد مرحلة الدفاع عن النفس…
وصناعة الفعل الحضاري في كل ذلك يقوم عليه الوحي الإلهي صناعة وإخراجاً، ولكنه ممزوج وبالفعل التجريبي للرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة.
وصناعة الفعل الحضاري في كل ذلك يقوم عليه الوحي الإلهي صناعة وإخراجاً، ولكنه ممزوج وبالفعل التجريبي للرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة.
ولقد ظهرت آثار هذا الفعل التشريعي في تشكيل الفكر المقاصدي لدى الصحابة والتابعين. وقد قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه المصلحة الدائمة على المصلحة العارضة أو المنقطعة، ورأى أن في توزيع الأرض إغداقا على الجيل الحاضر في زمنه على حساب الأجيال اللاحقة من أبناء الأمة ضربا من ضروب الظلم، ولذلك علل بقوله: “وقد رأيت أن أحبس الأراضين بعلوجها، وأضع عليهم فيها الخراج، وفي رقابهم الجزية يؤدونها فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرية، ولمن يأتي بعدهم” ثم يقول: “أرأيتم هذه الثغور؟ لابد لها من رجال يلزمونها: أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر. لابد لها من أن تشحن بالجيوش، وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطي هؤلاء إذا قسمت الأراضُون والعلوج”[6] والحديث يؤصل بشكل عميق لفقه الأولويات.
وورد أيضا أن عبد الله بن المبارك أراد أن يحج حج نافلة وتطوع، فوجد امرأة تجمع ليتاماها وأبنائها من فتات الطعام سدا لرمق الجوع، فدفع إليها المال وقال لأصحابه: هذا حجنا لهذا العام”[7].
ثم سرعان ما أصبح هذا الفقه منظرا له ومؤصلا في كتب علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة وتاريخ التشريع، في خطوة إلى معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عليها يؤسس مقتضى ما يمكن به للاستخلاف والعمران البشري.
وبعد هذا التأصيل النظري لفقه الأولويات يمكن أن نسوق تعريف أحد العلماء له بقوله: إنه “وضع كل شيء في مرتبته بالعدل من الأحكام والقيم والأعمال، ثم يقدم الأولى فالأولى بناء على معايير شرعية صحيحة يهدي إليها نور الوحي ونور العقل (نور على نور)[8]. فلا يقدم غير الأهم على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح على الراجح ولا المفضول على الفاضل أو الأفضل، بل يقدم ما حقه التقديم ويؤخر ما حقه التأخير، ولا يكبر الصغير ولا يهون الخطير، بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم بلا طغيان ولا إخسار”[9]. فهو إذن نظر دقيق قائم على منهج الإسلام ومقاصده، يستعذبه الذوق الحسن، وتلين له الفطر السليمة، ويستحسنه العقل الصريح. ولذا قال العز بن عبد السلام: “ومعظم مصالح الدْنيا ومفاسدها معروف بالعقل، وذلك معظم الشرائع، إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان، وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن، واتفق الحكماء على ذلك. وكذلك الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال، وإن اختلف في بعض ذلك فالغالب أن ذلك لأجل الاختلاف في التساوي والرجحان فيتغير العباد عند التساوي، ويتوقفون إذا تخيروا في التفاوت والتساوي”[10].
واستمر هذا ديدنا ودأبا للأصوليين والفقهاء عند الأجرأة الفقهية، حيث استثمروا قواعده استثماراً دقيقا في الترجيح بين الكليات المقاصدية وما تفرع عنها من الضروريات، وبين المصالح والمفاسد، وبين الأحكام الخمسة عند الجمهور أو السبعة باصطلاح الأصناف.
وفي الدلالات بين المنطوق والمفهوم، وفي المنطوق بين الصريح وغير الصريح… ثم قبل ذلك وبعده اعتمادهم نظام التقابل حيث درات مباحثهم على “مجموعة من المتقابلات كالأصل والفرع، والنقلي والعقلي، والأصلي والتبعي، والمتفق عليه والمختلف فيه، وكاللفظ والمعنى، والمحكم والمتشابه، والظاهر والمؤول، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، والأمر والنهي، والناسخ والمنسوخ، والراجح والمرجوح”[11]. وفي كل هذه المباحث كان منهج الأخذ بمبدأ الأولويات حاضراً:
فعلى مستوى الضروريات تكاد تجد أغلب الأصوليين أطبقوا على هذا الترتيب: الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وقد تقرر هذا الأمر عند الشاطبي على المستوى التطبيقي، ولذلك وجدناه يقول: “فلو عُدِم الدين لعدم ترتب الجزاء المرتجي، ولو عدم المكلف لعدم من يتدين، ولو عدم العقل لارتفع التدين، ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء، ولو عدم المال لم يبق عيش”[12].
وجاء فيها أيضاً: “إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة الإحياء بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها، أو إتلافها وإحياء المال كان إحياؤها أولى، فإن عارض إحياؤها إماتة الدين كان إحياء الدين أولى وإن أدى إلى إماتتها كما في جهاد الكفار وقتل المرتد وغير ذلك…”[13].
ولم يقف الشاطبي عند هذا الترتيب العام لهذه الكليات بل نفذ إلى بنيتها الداخلية، إذ بالإمكان تصور مراتب تتعلق بكل كلية على حدة، قال عن كلية النفس فـ” إذا نظرت في مرتبة النفس تباينت المراتب، فليس قطع العضو كالذبح، ولا الخدش كقطع اليد…”[14].
ووجدنا الفقهاء يرجحون بناء على هذا الترتيب فأفتوا بجواز وأولوية دفع المال للمحارب (قاطع الطريق) حتى لا يَقْتُل، إذ المصلحة الراجحة ألا يؤذي المسلم صاحب المال، ولأن المصيبة في المال أقل من المصيبة في النفس. وأفتو بدفع المال فداء للأسرى، وبدفع المال للمرأة المسلمة الأسيرة التي يخشى عليها هتك عرضها بالزنى بها، لأن المصيبة في المال أهون من المصيبة في النفس وفي العرض.
وعلى مستوى الأحكام والمصالح وضعوا معايير للترجيح بينها استحضارا للتلازم الحاصل حصرها العز بن عبد السلام في اثنين : “الأول: يتعلق بارتباط المصلحة بالحكم الشرعي، فالتي من نوع الواجب أولى بالتقديم على التي من نوع المندوب، وهذه أولى بالتقديم على التي من نوع المباح. والمفسدة التي من نوع المحرم أولى بأن تدرأ من التي من نوع المكروهات. فمصالح الإيجاب أفضل من مصالح الندب، ومصالح الندب أفضل من الإباحة. كما أن مفاسد التحريم أرذَل من مفاسد الكراهة. والثاني: يتعلق باستقراء مقاصد الشرع في جلب المصالح، ودرء المفاسد حتى يحصل عرفان بأن مصلحة ما لا يجوز تأخيرها وأن مفسدة ما لا يجوز قربانها، وإن لم يكن في هذا نص أو إجماع أو قياس”[15].
والترجيح بين هذه الأحكام والمصالح المعتمد فيه الرتبة التشريعية لكل حكم وفق ما ينبني عليه من مصالح تستجلب أو مفاسد تدرأ، ولذلك كانت مصالح الفرض أعظم من مصالح الواجب ومصلحة الواجب أعظم من مصلحة المندوب، ومفاسد الحرام ألعن من مفاسد المكروه التحريمي، ومفاسد المكروه التحريمي أبشع من مفاسد المكروه التنزيهي، وقد تستثمر هذه القواعد استثماراً مقاصديا تربويا لضبط سلوك الفرد والمجتمع.
ولذلك وجدنا الأصوليين في كتاب الأحكام يميزون بين المراتب الخمس أو السبع للحكم التكليفي، وألفينا الأحناف منهم يقيمون تقسيمهم لذلك بناء على قطعية الدليل أو ظنيته، وهكذا فالواجب عندهم ما ثبت بدليل ظني، بيد أن الفرض عندهم ما ثبت بدليل قطعي، ورتبوا على حكم “الفرضية اللزوم اعتقاداً وتصديقا وعملا، كما رتبوا على حكم الوجوبية اللزوم العملي دون الاعتقاد واليقين”[16].
وعلى نحو تفريقهم بين الواجب والفرض أجروا تقسيمهم للمكروه في جهة الترك، فجعلوه على ضربين: مكروه كراهة تنزيه، وهو المنهي عنه نهيا غير جازم، ومكروه كراهة تحريم، وهو المنهي عنه نهيا جازماً، لكن بدليل ظني. قال شمس الدين الفناري: “والمكروه نوعان: مكروه كراهة تنزيه، وهو إلى الحل أقرب، ومكروه كراهة تحريم، وهو إلى الحرمة أقرب”[17]. وقال التفتزاني شارحاً عبارة: “وهو إلى الحل أقرب”: “بمعنى أنه لا يعاقب فاعله أصلا، لكن يثاب تاركه أدنى ثواب، ومعنى القرب إلى الحرمة: أنه يتعلق به محذور دون استحقاق العقوبة بالنار، كحرمان الشفاعة”[18].
وفي جهة الفعل نظر الأصوليون إلى المندوبات نظراً تفاضليا بناء على الجزئية والكلية، أي بناء على ما هو متعلق بالفرد في خاصة نفسه، وما هو متعلق بأفراد المجتمع جميعهم، كما عدت المداومة على ترك المندوب المتعلق بأفراد المجتمع أمرا مفضيا إلى تجريح التاركين له، وفي هذا قال الإمام الشاطبي: “إذا كان الفعل مندوبا بالجزء كان واجبا بالكل، كالآذان في المساجد الجوامع أو غيرها، وصلاة الجماعة، وصلاة العيدين… ولو فرض تركها جملة لجرحَ التارك لها، ألا ترى أن في الآذان إظهاراً لشعائر الإسلام؟ ولذلك يستحق أهل المصر القتال إذا تركوه. وكذلك صلاة الجماعة من داوم على تركها يجرح، فلا تقبل شهادته، لأن في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين. وقد توعد الرسول عليه السلام من داوم على ترك الجماعة فهم أن يحرق عليهم بيوتهم، كما كان عليه السلام لا يغير على قوم حتى يصبحَ، فإن سمع آذانا أمسك وإلا أغار، والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو مقصود للشارع، ومن تكثير النسل، وإبقاء النوع الإنساني، وما أشبه ذلك. فالترك لها مؤثر في أوضاع الدين إذا كان دائما، أما إذا كان في بعض الأوقات، فلا تأثير له، فلا محظور في الترك”[19]. وهكذا فإن المداومة على ترك المندوب تصيره واجبا بالكل، كما أن المداومة على فعل المكروه من الجهة الأخرى تصيره محرماً بالكل. وبه يتبين أن المندوب ليس ملزما فعله بذاته، بل بتظافره واجتماعه وتعاضده، كما أن المكروه ليس ملزماً تركه بذاته، بل بتظافره واجتماعه وتعاضده، بخلاف الواجب والمحرم فملزم فعله وتركه في الفعل الواحد المفرد.
والذي دفع بالعلماء إلى النظر في هذا التقسيم المتعلق بمراتب المندوبات هو تفاوت أجورها، ولذلك قال أبو عبد الله المازري: “ولما علم الفقهاء بهذا التفاضل أرادوا أن يضعوا أسماء تشعر بالتفاوت في الأجور، فسموا ما ارتفعت رتبته في الأجر، وبالغ عليه السلام في التحضيض عليه سنة، وسموا ما كان في أول هذه المراتب تطوعاً ونافلة، وسموا ما توسط بين هاتين الحاشيتين فضيلة ومرغبا فيه، ويقارب معنى الفضيلة عندهم”[20].
وفي قسم المباح أيضاً لا تظهر الإباحة الحقيقية له إلا في الصورة الجزئية للفعل، أي في أداء الأفراد له حسب اختياراتهم ورغباتهم بصورة فردية، لكنه يتنوع، وتتغير أحكامه في صورته الكلية، أي في القيام بالفعل المباح من مجموع الناس أو عامتهم، ويخضع هذا التغير الطارئ على أحكامه لآثاره الخارجية ومآلاته، ويتقاسمه اتجاهان: الندب أو الوجوب من جهة، والكراهة أو التحريم من جهة ثانية، وذلك بناء على مؤشرات مقاصدية ترجع أساساً إلى مراعاة أمهات المصالح من جهة ارتباطها بكل الأمة، لا من جهة ارتباطها بالفرد الواحد، إلا في حالات معينة فإنه يكون للفرد الواحد من الأحكام ما لمجموع الناس أو عامتهم سيما إذا أنيطت به مسؤوليات دينية أو اجتماعية… فإنه حينها يكون ممثلا للأمة نائبا عنها فيلزمه من أحكام الإباحة ما لا يلزم غيره، وفي هذا ذكر الإمام الشاطبي “إن الإباحة بحسب الكلية والجزئية تتقاسمها الأحكام البواقي”[21]، ويقصد بالكلية كلية الأمة أو كلية الزمن، وبالجزئية الفرد الواحد أو جزئية الزمن، ثم مضى إلى تفصيل الصور الأربع لها:
الأولى: مباح بالجزء مندوب بالكل، كالتمتع بالطيبات من المأكل والمشرب.
الثانية: مباح بالجزء واجب بالكل، كالأكل والشرب، ووطء الزوجات، والبيع والشراء، كل هذه الأشياء مباحة بالجزء… “فلو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك، لكان تركاً لما هو من الضروريات المأمور بها، فكان الدخول فيها واجبا بالكل”[22].
الثالثة: مباح بالجزء مكروه بالكل: ويدْخل فيه جميع صور الترفيه واللهو المباحة.
الرابعة: مباح بالجزء محرم بالكل: كالمداومة على المباحات المخرجة من العدالة”[23].
وقد يتعلق النظر الاجتهادي “بتقييد المباح” بناء على اعتبار أصل المآل، كما إذا ترتبت عليه مفسدة أو اقتضاه أمر التصرف بالإمامة ورعاية المصلحة، وتحقيق السياسة الشرعية العادلة، ومن صور ذلك ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث الادخار فإنه نهى عنه ثم أجاز، ومتن الحديث ما أخرجه البخاري في صحيحه عن سلمة بن الأكوع قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وبقي في بيته منه شيء. فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله، نفعل كما فعلنا عام الماضي؟ قال: كلوا وأطعموا وادخروا، فإن ذلك العام كان بالناس جَهْدٌ فأردت أن تعينوا فيها”[24].
قال أبو القاسم المهلب[25]: “والذي يصح عندي أنه ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وقد فسر ذلك في الحديث بقوله: إنما كان ذلك من أجل الجهد، ومن أجل الدافه، فكان نظراً منه عليه السلام لمعنى فإذا زال المعنى سقط الحكم، وإذا تبث المعنى، ورأى ذلك الإمام، عَهِدَ بمثل ما عهد به عليه السلام، توسعة على المحتاجين. وقول عائشة: (وليست بعزيمة ولكنه أراد أن يطعم منه) يبين أنه ليس بمنسوخ، ولا النهي عن ذلك بمعنى التحريم، وأن للإمام والعالم أن يأمر بمثل هذا ويحض عليه إذا نزل بالناس حاجة”[26].
ومثله أيضا ما فعله عمر بن الخطاب وقد منع الزواج من الكتابيات، ففي السنن الكبرى “أن حذيفة رضي الله عنه تزوج يهودية، فكتب إليه عمر رضي الله عنه أن يفارقها، وقال: إني أخشى أن تَدَعوا المسلمات، وتنكحوا المومسات. وفي رواية أن حذيفة كتب إليه أحرام هي؟ فقال: لا ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن”[27]. وهي شواهد تشهد لصحة قاعدة تقييد المباح بناء على النظر والتقدير المآلي.
وهكذا يتضح أن لكل قسم من أقسام الحكم التكليفي رتبة تشريعية تتعلق به، حسب درجة الإلزام المنوطة به، فدرجة الإلزام في فعل الواجب هي غير درجة الإلزام في فعل المندوب، بل تتفاوت الواجبات والمندوبات في شدة الإلزام حسب ما ينبني عليها من المصالح. كما تختلف درجات الإلزام في جهة الترك بين المكروه والحرام، ولكل منهما مراتب متفاوتة حسب ما يترتب عن مخالفة مقتضياتها من المفاسد، ولذلك فرق الأصوليون بين المنهي عنه لذاته، لتعلق المفسدة بذات المنهي عنه، وبين المنهي عنه لغيره لتعلق المفسدة بالصفة الطارئة، أو بالمفعول فيه الزماني أو المكاني، لا بذات الشيء. وهكذا قسم المباح وهو يتوسط الجهتين: جهة الترك، وجهة الفعل، فإن كان خادماً للأولى، لم يكن مصرحاً بإباحته، مما يدل على أن تركه أولى، وإن كان خادماً للثانية صرح بإباحته تصريحاً، وحينها يكون الفعل أولى من الترك.
وقد لوحظ أن المعيار المحتكم إليه في ترتيب هذه الأحكام، وإجراء الموازنة بينها، هو الاعتبار المقاصدي الذي يوجه الأحكام بناء على تقديم ما حقه التقديم، وتأخير ما حقه التأخير سواء تعلق الأمر بمجال العقيدة، أو مجال العبادات. وقد نقل الزركشي عن الباقلاني قوله: “يجوز أن يقال بعض الواجبات أوجب من بعض كالسنن بعضها آكد من بعض، خلافا للمعتزلة، لأن الوجوب عندهم ينصرف إلى الذات”[28]، ونقل عن ابن القشيري قوله: “يجوز ذلك عندنا، فما كان اللوم على تركه أكثر كان أوجب، فالإيمان بالله أوجب من الوضوء”[29].
ومن الأمثلة على ذلك الحديث الوارد في أفضلية الإيمان، وتقديمه على غيره، وهو ما رواه أبو هريرة (ض) “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور”[30].
قال العز بن عبد السلام مبينا تفاضل وتمايز هذه الأعمال: “جعل الإيمان أفضل الأعمال لجلبه لأحسن المصالح، ودرئه لأقبح المفاسد، مع شرفه في نفسه، وشرف متعلقه… وجعل الجهاد تلو الإيمان لأنه ليس بشريف في نفسه، وإنما وجب وجوب الوسائل… وجعل الحج في الرتبة الثالثة، لانحطاط مصالحه عن مصالح الجهاد، وهو أيضا يجلب المصالح، ويدرأ المفاسد”[31].
وفي مجال العبادات التي تشكل أعمدة هذا الدين، وجدناها أيضاً ليست على رتبة واحدة وإنما هي رتب متفاوتة، وهذا ما قرره الإمام الشاطبي بقوله: “القواعد الخمس أركان الدين، وهي متفاوتة في الترتيب، فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة، ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة، ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان، وكذلك سائرها مع الإخلال، فكل منها كبيرة”[32].
وإن هذا الضابط المقاصدي كان هو معيار ترتيب مصالح الضروريات في أنفسها، أو في علاقتها بمصالح الحاجيات والتحسينيات، ولذلك وجدنا الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي وضع معايير لكل من الضروريات والمصالح عددها في ثلاثة:
الأولى: النظر إلى قيمتها في ذاتها، فما به يكون حفظ الدين مقدم على ما يكون به حفظ النفس عند تعارضهما، وما يكون به حفظ النفس مقدم على ما يكون به حفظ العقل، وما يكون به حفظ العقل مقدم على ما يكون به حفظ النسل، وما به يكون هذا مقدم على ما يكون به حفظ المال، ثم إن رعاية كل من هذه الكليات الخمس يكون بوسائل متدرجة حسب الأهمية في ثلاث مراتب وهي الضروريات فالحاجيات فالتحسينيات.
الثانية: النظر إليها من حيث مقدار شمولها، وذلك أن المصالح وإن اتفقت وتقاربت في تحقيق منافع الناس التي جلبت لها وفي مدى حاجتهم لها، فإنها كثيرا ما تختلف في مقدار شمولها للناس ومدى انتشار ثمراتها بينهم، فيقدم حينئذ أعم المصلحتين شمولا على أضيقهما في ذلك.
الثالثة: مدى توقع حصولها في الخارج، وعلى هذا لا يجوز ترجيح مصلحة على أخرى إذا كانت مشكوكة أو موهومة الوقوع، مهما كانت قيمتها أو درجة شمولها، بل لابد إلى جانب هذا أن تكون مقطوعة الحصول أو مظنونة”[33].
والملاحظ أن الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي جعل مقومات ومشيدات حفظ الدين مقدمة على مقومات حفظ النفس، وهكذا حسب ترتيب هذه الضروريات. كما اعتبر مؤشر الترجيح هو امتدادات هذه المصالح في الواقع من حيث آثارها الايجابية، فما كان أزكى وأوفى قدم على غيره. وهو نظر سديد قيمته المضافة هو هذه الرؤية الشمولية النافذة إلى تعقب آثار كل فعل مصلحي كمًّا وكيفاً بنظر استبصاري استشرافي، منصب على وضع الفرد ووضع الأمة ووضع العالم.
غير أن الدكتور أحمد الريسوني كان أعمق نظراً في طبيعة المعايير التي وضعها مقياساً للترجيح بين المصالح والمفاسد أجملها في خمسة معايير هي: النص الشرعي، ورتبة المصلحة، ونوع المصلحة، ومقدار المصلحة والامتداد الزمني للمصلحة”[34]. وضمن هذا أشار إلى أن الترجيح لا يكون بين رتب هذه المقاصد الثلاث كل على حدة، وإنما من خلال مجموعها، وأن كمال الضروريات لا يكون إلا بالآخرين معاً وكأنهما فرد من أفراده، يقول الشاطبي: “مجموع الحاجيات والتحسينيات ينتهض أن يكون كل واحد منهما كفرد من أفراد الضروريات، وذلك أن كمال الضروريات – من حيث هي ضروريات- إنما يحسن موقعه حيث يكون فيها على المكلف سعة وبسطة من غير تضييق ولا حرج، وحيث يبقى معها خصال معاني العادات ومكارم الأخلاق موفرة الفصول مكملة الأطراف، حتى يستحسن ذلك أهل العقول، فإذا أخل بذلك لبس قسم الضروريات لبسة الحرج والعنت واتصف بضد ما يستحسن في العادات، فصار الواجب الضروري متكلف العمل وغير صاف في النظر الذي وضعت عليه الشريعة وذلك ضد ما وضعت عليه”[35]. وهكذا فرغم تباين هذه المراتب الثلاثة غاية ووسيلة فهي تمثل نسقا مصلحيا متكاملا ومتحركا لا يقبل السكون عبر تفاعلات فسرها الشاطبي:
- إن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي.
- إن اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقيين بإطلاق.
- إنه لا يلزم من اختلال الباقيين اختلال الضروري.
- إنه قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما.
- إنه تنبغي المحافظة على الحاجي وعلى التحسيني للضروري[36].
لقد تأسس تقعيداً ما يكفي جعل مبدأ الأخذ بالأولويات منهجا كامل الأركان في الفكر الأصولي، وقد استثمره الأصوليون تصنيفا للنصوص في قوة ثبوتها ودلالتها، وللأحكام في رتبتها التشريعية، وللمقاصد في توظيفها وتوجيهها لكل العلوم وليس علم الفقه فقط.
الهوامش: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الزمر 17-18.
[2] الزمر 55.
[3] الأنفال 67.
[4] البقرة 183.
[5] التوبة، الآية 193.
[6] كتاب الخراج لأبي يوسف ص 23-27.
[7] ينظر الطرق الحكمية ص123.
[8] النور 35.
[9] في فقه الأولويات ص 9.
[10] قواعد الأحكام 1/4.
[11] منهج الدرس الدلالي عند الإمام الشاطبي د. عبد الحميد العلمي ص 79.
[12] الموافقات 2/17.
[13] نفسه 2/39.
[14] الاعتصام 2/38.
[15] قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/7، 1/24، 1/51.
[16] أصول فخر الإسلام البزدوي مع شرحه كشف الأسرار 2/553.
[17] فصول البدائع في أصول الشرائع، الفناري شمس الدين محمد بن حمزة 1/244، دار الكتب العلمية، ط: الأولى، 1427هـ/2006م.
[18] شرح التلويح على التوضيح التفتزاني 2/264.
[19] الموافقات 1/94.
[20] إيضاح المحصول من برهان الأصول المازري أبو عبد الله محمد بن علي، تحقيق عمار الطالبي ص 241. دار الغرب الإسلامي بيروت 2001م.
[21] الموافقات 1/92.
[22] الموافقات 1/93.
[23] الموافقات 1/93.
[24] صحيح البخاري 5/2115، رقم 5249.
[25] شجرة النور الزكية في طبقات المالكية مخلوف محمد بن محمد 1/114، دار الكتاب العربي بيروت.
[26] شرح صحيح البخاري ابن بطال، 6/31.
[27] سنن البيهقي الكبرى 7/172، رقم 13762.
[28] البحر المحيط في أصول الفقه للإمام الزركشي 1/184.
[29] المرجع السابق، 1/184.
[30] صحيح البخاري 1/18، حديث رقم 26.
[31] قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/85.
[32] الاعتصام 2/58.
[33] ضوابط المصلحة ص 249-253.
[34] نظرية التقريب والتغليب ص 330.
[35] الموافقات 2/23.
[36] الموافقات 2/16.
التعليقات