مقالات

الدكتور سعيد شبار يكتب: كورونا، واستعادة مفهوم الإنسان والقيم الإنسانية.

اللمعة الثامنة عشرة

لقد استطاع هذا الكائن الخفي أن يلزم العالم بإعادة النظر في كل حساباته وأولوياته، وأن يصحح مساره ووجهته نحو ما هو إنساني تُعطى فيه الأولوية للإنسان وجودا وكرامة؛ بعدما كان الرهان في سياق العولمة التنافسية المحمومة على الإنتاج والأسواق والأرباح، وفي سياق ما بعد الحداثة، على تضخم النزعة الأنانية الفردانية في فهم التحرر والمتعة والتملك. كل ذلك على حساب الوجود الإنساني الذي أمسى في تلك المنظومة جزء من معادلة رقمية انتاجية، نتيجتها الربح والتحكم في كل شيء، في الأنسان كما في الطبيعة. لقد استطاع هذا الكائن الخفي وفي ظرف وجيز، أن يرفع سقف التحدي أمام البشرية ليكشف عجزها ووهنا فيما زعمت أنها تفوقت فيه. ويقلب معادلة الوجود الإنساني السائدة اليوم، بإرجاعها إلى أصلها الأول: الفطري والطبيعي؛ حيث القيمة العليا لـ “الإنسان” وليس لـ “الأشياء”. وأن البحث والعلم والتطور ينبغي أن يكون في خدمة هذه الحقيقة الوجودية وليس العكس. وأن نتيجة التطور المادي بدون قيم إنسانية مصاحبة، سيكون ضحيته الأولى الإنسان نفسه والبيئة من حوله. إنه أشبه ما يكون بالغراب الذي بعثه الله إلى ابن آدم يعلمه كيف يواري سوأة أخيه. نعم، إنه يعلمنا رغما عنا، شئنا أم أبينا، كيف نعيد ترتيب أولوياتنا في عالم أفكارنا ووجودنا، كما في عالم أشيائنا واحتياجاتنا.
لقد خطا الغرب خطوات عملاقة منذ عصر النهضة مرورا بحقبة الأنوار إلى العصر الحديث، محققا في ذلك كله إنجازات واكتشافات عظيمة من خلال ثوراته العلمية والصناعية والتقنية، التي استفادت منها البشرية من غير شك وبدرجات متفاوتة. لكن هذا النموذج من التطور قادته فلسفات مادية اختزلت الوجود الإنساني في عالم الظواهر فحسب، إذ كل شيء يفسر تفسيرا ماديا، (الاقتصاد والاجتماع والنفس والتاريخ والدين والعلم والتطور…الخ). ومبرر ذلك القطيعة التي أحدثها مع التفسير الغيبي اللاهوتي الخرافي الذي كانت تقوده الكنيسة طيلة قرون. وبدل التمييز بين الخرافة المعارضة لحقائق العلم ومقررات العقل وبديهيات التاريخ، والتي استُعملت سلطة للقمع والمصادرة على حرية الفكر. وبين الدين الحامل للمعنى في الحياة، والقيم المرشدة لسلوك الإنسان، والمعضدة للعلم والعقل والتطور. نجده يُهمش الكل ويُغرق في تمجيد المادة التي ستعرف بدورها تطورا رهيبا حينما ستتجاوز أصولها التفسيرية إلى السيولة والعدمية المطلقة.
لقد أعلى عصر النهضة من شأن العقل والعلم والإنسان والطبيعة، على ما صاحب ذلك من غلو أحيانا في تحويل تلك الأصول الى نزعات عقلية وعلموية وإنسية ومادية، متمركزة حول ذاتها. وأعلى عصر الأنوار بعده من قيمة الحقوق والحريات وتقرير النظم والمبادئ والقوانين، وصحب كل ذلك نقاش واختلاف حيوي له مرجعيات وأصول يستند اليها ويبرر من خلالها اختياراته؛ وحيث كان حضور القيم الكبرى والمثل العليا، والبحث عن المشترك الإنساني في الأديان والثقافات لايزال يوجه ويؤثر في إنتاج العلم والمعرفة.
لكن الدخول في طور العولمة وما بعد الحداثة من بوابات احتكار العلم والعقل والمعرفة، والمصادرة عليها من طرف الشركات والمؤسسات الإنتاجية العملاقة، إغراقا للأسواق بالمنتجات المعدلة والمتحكم فيها، وتحريفا لأذواق الناس إلى درجة الهوس الاستهلاكي. حيث غدا الناس والعالم في هذا المنظور سوقا تنافسية مفتوحة، وليس كائنات آدمية لها وجود وكرامة. والأخطر من ذلك بناء منظومة “قيمية” موازية لقيم الفطرة في الإنسان، تؤثثها مفردات تم تزييفها مثل تزييف السلع، في معاني: اللذة، والمتعة، والتحرر، والاشباع اليومي بل واللحظي، والتملك، والرغبات الفردية…الخ. يكون بذلك هذا “النموذج الأسواقي”، القائد والمتحكم بكل شيء، قد تنكر لأصوله ومراجعه التي كانت سببا في وجوده، ودخل مرحلة من السيولة والعدمية لا يمكن الإمساك فيها بشيء. إنها سيولة المفردات والمفاهيم التي تحدث عنها الفيلسوف وعالم الاجتماع زيغموند باومان بحق حيث لا ثبات ولا يقين فيها.
للأسف لم ينصت هذا “النموذج الأسواقي” منذ بداية تشكله الأولى، لصوت العلم والفكر، والعقل والفلسفة، والقيم والأخلاق، في التنبيهات والتحذيرات التي أطلقها مؤرخون وفلاسفة، وعلماء ونقاد من مختلف التخصصات، من داخل الغرب وليس من خارجه. نبه المؤرخان الكبيران الألماني اوسفالد شبنغلر، والانجليزي أرنولد توينبي، منذ مطلع القرن الماضي إلى أفول النموذج الحضاري الغربي لسنن ضرورية متحكمة في النهوض والسقوط الحضاري. شنت مدرسة فرانكفورت بروادها وأجيالها، حركة نقد قاسية على هيمنة “الثقافة الرقمية”، و“الثقافة الاستهلاكية”، و“العقل الأداتي”، بل و“أفول العقل”، و“الانسان ذو البعد الواحد”…الخ. تعرضت الحداثة لحركة نقد وإعادة توجيه في جوانبها السلبية كما فعل آلان تورين، وتعرضت “نزعة التملك” لنقد مماثل من أجل “الكينونة الإنسانية” كما فعل أريك فروم. وتساءل نقاد وفلاسفة كثيرون عن “إلى أين يسير العالم”، وعن “الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها”، وعن “الربح فوق الشعوب”…، وإجمالا عن الوجهة المجهولة، التي يقود هذا النموذج البشرية إليها، لعل أبرزهم من المتأخرين إدغار موران وغارودي ونعوم شومسكي وغيرهم.
إن التطور المجنون الذي يقوده الجشع والطمع، والأسراف والتبذير، والرغبة في الهيمنة والتوسع، تحت أي اسم كان، والذي لا يعير اعتبارا للإنسان لا كرامةً ولا وجوداً، ولا يعير اعتباراً للبيئة لا مجالاً ولا محيطاً، لا يمكنه أن يقدم للبشرية إلاّ الشقاء بدل السعادة، والوهم بدل الحقيقة، والخوف بدل الأمن، والرعب بدل الطمأنينة، والمتع الزائفة المعلبة، وأن يدخلها في صراع وجودي بين قيم الفطرة الآدمية، و“قيم” الاستهلاك والاشباع المصنعة.
لست في مقام إصدار أحكام ولا تهجم على هذا النموذج، وإنما أكشف فقط عما وُجه لهذه النزعة التي تقوده من نقد، لأنها أفسدت ولا تزال تفسد، جمال الحضارة الإنسانية العريقة في بلدان الشرق والغرب معا. وتسحب الإنسان من موقع الاستخلاف والتكريم والتكليف الإلهي الذي انيط به، باعتباره سيداً في الكون الذي سُخر له تسخيراً، صانعًا للحضارة والتاريخ، ناشرًا لقيم الحق والخير والعدل، متعارفًا ومتعاونًا فيما بينه؛ إلى مواقع هامشية وثانوية أصبح فيها مسودًا لا سيدًا وتابعًا لا متبوعًا، ولنقل خادما للأرقام بدل تخدمه، تتحدد قيمته بالكم الذي يملك لا بالكيف والجوهر الذي هو عليه.
وها نحن اليوم أمسينا مرضى بتتبع الأرقام التي ترتفع كل يوم، في عدد الإصابات وفي كَمِّ الوفيات في هذا البلد أو ذاك. إنه شيء مرعب حقا أن تدفع البشرية كل هذا الثمن في الأنفس والأرواح وفيما سيلي ذلك من تبعات وآثار اقتصادية واجتماعية. وعساه يصدق قول من قال: “إن العالم قبل كرونا لن يكون هو نفسه بعدها”، وأن يكون ذلك التحول نحو إصلاح وتجاوز آفات العولمة في التطور اللاإنساني، إلى نموذج من التطور يكون مركزه الإنسان. وأن يتم الكف عن تعليب الأرض في تحالفات اقتصادية وسياسية منزوعة القيم ولا روح فيها؛ ولقد رأينا كيف أن عددًا منها كان من الهشاشة بحيث لم يعد له معنى ولا دور في هذه الأزمة. كما رأينا في المقابل أن قيما إنسانية عميقة تنبثق من عمق الأزمة والوباء في التضامن والخدمة، والتضحية والتعاون، وكيف أن جنودًا وجيوشا في العالم كله، من رجال الصحة والأمن والنظافة، ومن المسؤولين في القطاعات الحكومية والمدنية، تُنكر نفسها وتخدم غيرها.
لقد عاشت البشرية طويلا خدعة صراع قيم الدنيا والدنيا، وصراع العلم والعقل والإيمان، وآن لها أن تحيا دنياها بدينها، وأن يصطحب العلم والعقل مع الإيمان. فلا فساد في تلك الأصول إلا من جهة ما يدخل عليها من غلو وتطرف، سواء كان في الدين أو العلم أو العقل. والمطلوب حينها إصلاح الغلو والحد من التطرف لا إلغاء الأصل. تحتاج البشرية إلى الإيمان الذي يمنحها الطمأنينة واليقين، والمعنى والغاية من الخلق والحياة؛ وإلى قيمه التي تمنحها التعاون والتضامن، والتكافل والتآزر، وحب الذات والآخرين، وتطرد عنها الجشع والطمع، والإسراف والتبذير. وإذا حمل العقل والعلم والتجربة، قيما إضافية لها نفس غايات اسعاد الإنسان، وجلب النفع له ودفع الضرر عنه، فذلك التكامل المطلوب. فلقد تحدث الفلاسفة قديما وحديثا عن قيم الخير والجمال والحق والعدالة والسعادة والفضائل…، وهي عينها المقررة في الأديان وبأبعاد ومعاني إضافية تعلي من تلك القيم ومن فعاليتها. والعلم الذي تؤطره القيم هو أنفع للناس من العلم الذي يتاجر بمصائر الناس وبوجودهم.
ينضاف إلى هذا، أنه بالأمس كانت هنالك تضحيات كثيرة بمكاسب وخصوصيات وطنية، من أجل الانخراط في العولمة وابتلاع بعض مشكلاتها وتحدياتها بصعوبة، لكن تبين اليوم أن القيم الوطنية التي تجعل الوطن والمواطن على رأس اهتماماتها، هي الضامن الوحيد للأمن والاستقرار والتضامن والتنمية. مما يعني أن الرهان المقبل هو على الدولة الوطنية في تلاحمها وانسجامها، وفي استثمار كل إمكاناتها، وفي تأهيل كل قطاعاتها، وفي تفاعل كل مكوناتها، من أجل إسعاد إنسانها واسعافه عند الضرورة.
وإذا تم تكريم الإنسان في سائر الأوطان فذلك تكريمه في العالم حيث كان.

التعليقات

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *