مراجعة كتاب حالة الأزمة
الأزمة، في اللغة، تعنى الشدة والضيق والقحط، ويقال أزم علينا الدهر: أي اشتد وقل خيره، أو أزمت عليهم السنة أي اشتد قحطها، ومنه قولهم :أزمة سياسية، وأزمة اقتصادية، وفي الاصطلاح، تعبر الأزمة عن نمط معين من المشكلات أو المواقف التي يتعرض لها فرد أو أسرة أو جماعة يتطلب رد فعل مناسب له.
ومصطلح الأزمة قديم ترجع أصوله التاريخية إلى الطب الإغريقي ويعني نقطة تحول أو لحظة قرار حاسمة في حياة المريض، وهي تطلق للدلالة على حدوث تغيير جوهري ومفاجئ في جسم الإنسان، لذلك فقد شاع استخدام هذا المصطلح في القرن السادس عشر في المعاجم الطبية، وتم اقتباسه في القرن السابع عشر للدلالة على ارتفاع درجة التوتر في العلاقات بين الدولة والكنيسة، وبحلول القرن التاسع عشر تواتر استخدامه للدلالة على ظهور مشكلات خطيرة أو لحظات تحول فاصلة في تطور العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وتختلف طرق التعامل مع الأزمة بمفهومها الحديث من مجتمع لآخر بحسب طبيعتها ونوعيتها وأسبابها، فبعض المجتمعات تهرب منها إلى الأمام، والبعض الآخر يواجهها بوسائل خاطئة أو قراءات مبتسرة ، ولذلك فإن للطريقة التي تقرأ بها الأزمة نتائجها المهمة من حيث التفكير فيما نفعله بشأنها سواء كنا أفراداً أو مؤسسات أو مجتمعات.
وعالم الناس اليوم يموج بالأزمات المتلاحقة واحدة إثر الأخرى، ويجتهد مفكرو كل أمة أو دولة في تناول تلك الأزمات وبيان طرق التعامل معها والخروج منها، ومن أهم الأزمات التي واجهت عالمنا في مطلع القرن الحالي، الأزمة المالية العالمية عام 2008م، التي مازالت تترك آثارها الكبيرة على كافة جوانب الحياة في مختلف أرجاء المعمورة، وقد حاول كثيرون في الغرب وصف وتفسير حال الأزمة التي يمر بها عالمنا وتأثيراتها على سكان الكوكب من أبناء آدم.
وهذا الكتاب حوارية مركزة قام بها كارل بوردوني الباحث وكاتب المقالات والصحفي المتخصص في علم اجتماع الثقافة، ومؤلف: فترة ما بعد الجماع: ما بعد الحداثة السائلة. ونهاية المساواة (2017)، وحال الخوف في عالم سائل، بالاشتراك مع زيجمونت بومان (توفي 2017 م ) أستاذ علم الاجتماع بجامعة ليدز بالمملكة المتحدة، والذي تعد كتبه أكثر الكتب مبيعاً في العالم وترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، ومن أهمها سلسلة السوائل[1].
يناقش المؤلفان في ثلاثة فصول مترابطة الأزمات الثلاث التي تواجه المجتمعات الغربية: أزمات الحداثة والدولة والديموقراطية في ظل انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية، وكيف يمكن لأوروبا أن تواجه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها حالياً في ظل تحولات متسارعة تطال بنية العالم الذي شيده الإنسان الغربي طيلة القرون الحديثة، وفي ظل انفصال السياسة عن الاقتصاد، وخذلان الحداثة للبشر، وفقدان ثقة المواطنين الغربيين في الديمقراطية وقدرتها على تحقيق رغباتهم وتلبية احتياجاتهم.
“حالة الأزمة”، هذا هو الاسم الذي اختاره المؤلفان ليكون عنوان كتابهما المشترك حول تلك الأزمات، فالدولة التي كانت بيت الأمان للمواطن الغربي والملاذ في أوقات الأزمات وكلية القدرة على مواجهتها تعاني من ضمور في قوتها وقدرتها وتراجع في أدوارها. والحداثة تبدو وقد خذلت مريديها وتخلت عن وعودها واستراتيجياتها في التقدم الدائم، والديموقراطية؛ التي هي تاج الحداثة وروح الدولة الليبرالية الحديثة، بلغت ذروة أزمتها في ظل عولمة كاسحة ألقت بنفياتها في مدن أوروبا من البشر الباحثين عن ملاذات آمنة من الفقر والجوع والقهر ولتحدث الذعر بين أبناء تلك المجتمعات الذين فقدوا الثقة في الحكومات النيابية بعد توالي فشلها في تحقيق وعودها كل انتخابات حتى لجئوا للشعوبيين المتطرفين في غالب أنحاء أوروبا، ومن خلال هذا السياق يطرح المؤلفان العديد من الأفكار حول إمكانية الخروج من الأزمة الراهنة والمستمرة.
فكرة الكتاب
تفترض الأطروحة الرئيسة لهذا الكتاب أن الأزمة التي تواجه العالم الغربي ليست أزمة مؤقَّتة، بل هي علامة دالة على تغير عميق في المنظومتين الاقتصادية والاجتماعية بأسرهما، كما أن آثارها ستدوم أمداً طويلاً، وبغية الوصول إلى تحليل أصيل وجديد للوضع الحالي الذي يمر به المجتمع الغربي يجب أن يدرك الغربيون أن مشكلاتهم ترجع إلى أسباب عولمية في حين ان أدوات الفعل السياسي التي ورثوها اختزلت إلى نطاق تأدية الخدمات المحلية لا تصلح في التعامل مع التحديات العولمية المتجاوزة للأقطار المهيمنة اليوم على الفضاء الأوروبي. (ص 31 ).
ما الأزمة؟
يتفق المؤلفان على أن هناك أزمة تواجهها أوروبا، لكنهما يختلفان في تفسيرها، ففي حين يرى بورد وني أنها تعبير عن شيء إيجابي وخلاق ومبشر لأنها تشير إلى تغير ما، وربما تكون ميلاداً جديداً بعد انفصال وانهيار، ونضج تجربة جديدة مما يؤدي إلى نقطة تحول(على المستويات الشخصية والتاريخية والاجتماعية) باعتبار أن الميل الطبيعي للتغير هو الذي يهيئ التغيرات المستقبلية على أساس جديد (ص 11)، نجد أن باومان يرى فكرة “الأزمة” تتجه اليوم إلى التعبير عن شعور باللايقين وفترة خلو العرش وعن شعور بجهلنا بمصير الأمور (ص 15)
أزمة الدولة
أزمة الدولة الراهنة هي التي تجعل كل الأزمات الأخرى متصلة متشابكة كما يرى باومان وبوردوني ، فالدولة كانت طوال قرن مضى هي الفاعل المجهز بالوسيلتين الضروريتين لمواجهة أي أزمات تواجهها المجتمعات الأوروبية: السلطة (القدرة على فعل الأشياء)، والسياسة (القدرة على تحديد الأشياء التي ينبغي فعلها) (ص 16)، وقد أدى عدم تمكنها من حل المشكلات المتلاحقة التي تطارد المواطن الأوروبي من بطالة وتضخم وهجرات غير شرعية وبيئة وغيرها، إلى طرح سؤال كبير عن البديل المطلوب وكيفية عودة الدولة لوظائفها وأدوارها الفعلية في تقديم الخدمات للمواطن. (ص103)
أسباب أزمة الدولة
يتفق المؤلفان على أن أهم اسباب أزمة الدولة الراهنة تتمثل في:
1- انفصال السلطة والسياسة مما يجعل الدولة عاجزة عن اتخاذ الاختيارات الملائمة لتحقيق ما يريده المواطنون. (ص 21)
2- تدمير الهوية الثقافية الوطنية بسبب التغير الواقع حيث طال الشك فكرة الجماعة الوطنية القائمة على وحدة اللغة والتقاليد والدين والثقافة. (ص 36)
3- دخول النموذج الويستفالي في أزمة، وسحب معه الدولة الحديثة التي نتجت أزمتها عن فتح الحدود وعجزها الأوضح في الالتزام بواجباتها نحو مواطنيها، فالحدود الداخلية هي التي يصدر عنها المشكلات، وقضايا الأمن، والدفاع عن المزايا الممنوحة للمواطنين، والهوية، والاعتراف، والتقاليد الثقافية التي كانت تلازم حدود الدولة يعتريها اليوم حالة من التبدل واللايقين والسيولة ولا يمكن الوثوق بها بعد اليوم. (ص38)
4- قوة العولمة التفجيرية التي محت الحدود بين الدول وقوضت كل ادعاءات السيادة المطلقة، وأزاحت سلطة الأمم/الدول ورفعتها إلى مستوى أعلى، فالسلطة الآن منتشرة في فضاء عولمي منفصلة عن السياسة، وتزداد أزمة الدولة مع اتخاذ القرارات بوساطة النخب القوية، والشركات القابضة، والشركات متعددة القوميات، وجماعات الضغط، وما يسمى “السوق” بدلاً من الجهات المؤسسية. ويبدو أن كل شيء يحدث لأن هذه هي الطريقة التي يسير بها العالم، ولا يقدر أحد على معارضة ذلك؛ لا المحتجون والمتظاهرون في الشوارع فأقصى ما يقدرون عليه هو تحسين الرأي العام الذي تشتته كثرة المعلومات، بل ولا تقدر على ذلك الأمة/الدولة فهي لا تمتلك الأدوات اللازمة للعمل على مستوى عولمي؛ ولم تمتلكها في يوم من الأيام، لأن هذا الأمر لم يكن مطروحاً قط من قبل. (ص 8-39)
5- وعامة ترجع أزمة الدولة إلى حضور هذين العنصرين: عدم القدرة على اتخاذ قرارات ملموسة على المستوى الاقتصادي، ومن ثم عدم القدرة على توفير خدمات اجتماعية كافية. (ص26).
وبعد أن كان بوسع آبائنا(يقصد الأوروبيين) أن يختلفوا بشأن ما ينبغي فعله، ولكنهم جميعاً كانوا متفقين على أنه فور تحديد المهمة ستكون القوة الفاعلة موجودة وستنتظر القيام بها؛ أي الدولة المسلحة بالسلطة (القدرة على فعل الأشياء) والسياسة (القدرة على التأكد من فعل الأشياء الصحيحة)، صار زماننا يدل بصورة واضحة على أن تلك القوى الفاعلة ليس لها وجود ولا يمكن العثور عليها في أماكنها المعتادة، فالسلطة والسياسة تعيشان وتتحركان في انفصال (ص107)، ولم تعد بنية الدولة ولا جدواها ولا فعاليتها تناسب الزمن الذي نعيشه (بما في ذلك منظومة التمثيل الديموقراطي) (ص 37)، مما جعلها تمر بأزمة هوية عميقة، وأن تتحمل أصداء أزمة الحداثة السائلة. (ص127-128)
أزمة الحداثة
مع دخول الدولة في أزمتها الشاملة تكشفت كثير من الأوهام التي رافقت الحداثة، وبدأت وعودها عن الأمن الذي كانت تكفله وإمكانية التحكم في الطبيعة تنهار أمام الحقيقة التي مفادها أن الطبيعة لن يتم إخضاعها، إضافة إلى وقوع ما يسمى “الكوارث الأخلاقية” التي يحدثها الإنسان في سباق لاستعراض مهارات التدمير، وهي غالباً ما تكون أشد خطورة من الكوارث الطبيعية، (ص65). كما صارت فكرة التقدم فكرة متفائلة أكثر من اللازم بعد أن ظهر زيفها(ص 66 )، وصار التضامن الاجتماعي؛ ذلك الوعد الأكبر الذي تحقق بجهد دؤوب بعد قرون من منازعات نقابية ومعارك سياسية وانتصارات غالية، محل شك وارتياب. (ص66)
لقد اهتزت أسس الحداثة بسبب العولمة التي اجتاحتها الشركات متعددة الجنسيات وإزالة الحدود وتفريغ الضمانات الاجتماعية والتمثيل الديموقراطي؛ فيما سمي بفصل السلطة والسياسة (ص 81) وإذا اضفنا إلى ذلك التحول عن الطابع الجماهيري للدولة الذي وجه ضربة قاضية للحداثة حيث تمت خصخصة كل شيء، وتم التحول نحو النجاة الفردية واعتناء الفرد بنفسه وسقوط الأفكار اليوتوبية عن التضامن الجمعي وبزوغ مرحلة ما بعد الحداثة. (ص82-83)
الانتقال إلى ما بعد الحداثة
وفي حين ظن الغربيون-كما يقول بردوني-أن ما بعد الحداثة ستكون حلاً لمشاكل الحداثة وإخفاقاتها، فإنها لم تلبث إلا وقتاً قليلاً هزت فيه الثوابت واليقينيات ولكنها لم تقدم البدائل ثم ذهبت سريعاً لتموت ميتة طبيعية مع قدوم الألفية الثالثة لتتركنا مع المستقبل ولا يقينياته التي نخضع لها فرادى (ص88 )، فقد مثلت ما بعد الحداثة لحظة من التشتت وفقدان الاتجاه والهرج الفوضوي أمام سياق اجتماعي يفتقر إلى التحديد والاستقرار والثقة واليقين. (ص120)
إلا أن باومان لا يتفق معه في قوله بتخلي الحداثة عن وعودها، فما أسماه برودوني وعوداً كان في الواقع-كما يرى باومان- “استراتيجيات” يرجى منها تحقيق تلك الوعود، فالوعود نفسها بقيت ثابتة على نحو مذهل ومحصنة بصورة مذهلة من تقلبات التاريخ؛ وغالباً ما خرجت سليمة من كل أزمة متتالية، وأن ما جرى التخلي عنه مرات ومرات هو الاستراتيجيات المفضلة ونموذج “المجتمع الفاضل” المنوط به جهد تتويج تحقيقها بعزم وثبات.
فباومان يرى أن ما جرى التخلي عنه هو “الأوهام” الفتية للحداثة”، بخاصة الوهم بأن فشل أية استراتيجية أو حتى عدد لانهائي منه الاستراتيجيات ليس دليلاً نهائياً على عبثية الوعد، لأن هناك استراتيجية مضمونة سيتم العثور عليها، وأن أي دليل مغاير ليس سوى تعثر مؤقت. (ص 70)، وهو يشدد على أنه قد وقع تغيران في الاستراتيجيات التي ربما تكون مرغوبة الآن:
أولاً: لم تعد الاستراتيجيات شاملة، ولم تعد تستهدف الشكل الكلي للمجتمع، بل صارت تركز على الفرد وعلى أمور يجري مراقبتها والتحكم فيها بصورة فردية، وهو الأمر الذي يعني أن اليوتوبيات القائمة على فكرة البستنة[2] قد أزيحت ليحل محلها اليوتوبيات القائمة على فكرة الصيد[3] التي توفر بذلك ملاذاً مريحاً وآمناً ومسيجاً ومغلقاً من أجل استمتاع الأفراد داخل عالم ساكن (ربما لأجل غير مسمى)، ومتعطل، وغير مضبوط بما يكفي وغير آمن، وغير مضياف بالمرة، وثانياً: فهو يؤكد على أن الروح الغربية الحديثة قد أصابتها حساسية راديكالية تجاه المشروعات الكلية الشاملة(ص70)، وأن الوعد الأصلي للحداثة في زماننا وصل إلى ذروة اكتماله (ص71). فالتقدم الذي يمثل أعظم السرديات الكبرى للحداثة ما زال بصحة أفضل من أي وقت مضى(ص87 )، لكن مع اختلاف واضح بين نظرتنا ونظرة أسلافنا إليه، ففي حين كان أسلافنا قابعين داخل أسطورة التقدم وينظرون إلى المستقبل بعين الأمل، نجدنا؛ نحن الغربيون، ننظر إليه بعين الخوف، فقد تحول التقدم من وعد بالنعيم إلى خطر محدق. (ص136 )
أزمة الديموقراطية
يتفق المؤلفان على أن الديموقراطية كانت في ذروتها وضعاً مثالياً للحرية ما لبث أن تدهور تدريجياً، ففي الأزمنة الحديثة اكتسبت الديموقراطية مضموناً مجرداً مثل غيرها من المصطلحات الإيجابية كالحرية والسعادة، وجرى استخدامها باعتبارها كلمة مرور أو كلمة سر وستاراً للتغطية على أسوأ أنواع القمع الذي يمارسه الإنسان على أخيه الإنسان، حتى إنه تم إفراغ مصطلح “الديموقراطية” من معناه الأصلي (حكم الشعب)، وصار ينظر إليه بعين الشك الحائر، بل ربما بعين الارتياب الصريح. (ص 141-142)
ولذلك يرجع المؤلفان الأزمة السياسية الراهنة للديموقراطية (المعادية للسياسة) إلى أزمة الدولة الحديثة؛ فالدولة قلقة بشأن طريقة الدفاع عن أسباب وجودها، ولذا فهي تتحرك لاستعادة الثقة بخفض الدين العام وتنفيذ سياسة ليبرالية جديدة ناسية أن مهمتها الأولية ليست ضبط الموازنة بل توفير خدمات كافية للمواطنين. (ص128-127)، كما أن عجزها عن الفعل بوصفها محاوراً قوياً وحاسماً في التوسط الاجتماعي، وبوصفها ضابطاً للاقتصاد وضامناً للأمان (ص 157)، ومع تفاقم أزمة المساواة وابتذال العمليات الديموقراطية، كل ذلك جعل السياسة تفقد مزيداً من الاتصال بالمواطنين وتنتهي بإفراز وضع غير مريح يمكن تعريفه بأنه “معاداة السياسة” ومن ثم أزمة شاملة للديموقراطية.(ص154)
معاداة السياسة أم معاداة الحزبية؟
في حين يرى بوردوني أن “معاداة السياسة” هو الوصف الأفضل لأزمة الديموقراطية الأوروبية، يختلف معه باومان في عدم دقة المصطلح ويرى أن “معاداة السياسة” مصطلح غير دقيق، فهو يشير في اللغة الرسمية إلى نفور المواطنين من السياسات نفسها (فلا ذكر هنا للشعب لأنه يفترض صلة متبادلة مع الدولة صاحبة السيادة)، وبدلاً من معاداة السياسة يمكننا أن نتحدث عن “معاداة الحزبية”.(ص23)
الفرد وحيداً في مواجهة مشكلات عصره
يؤكد المؤلفان أن هذه الأزمات التي تمسك بخناق بعضها: أزمة الحداثة والديموقراطية الناتجتان عن أزمة الدولة، وانحلال أواصر المجتمع الجماهيري الذي أرسى رابطة متينة بين الدولة والمواطن عبر إدارة الخدمات والإدارة المباشرة للأنشطة اللازمة للأمن، والذي شكل رابطة قوية من الاعتماد بين المواطن والدولة أسند المواطن ظهره اليه واعتمد عليه زمناً قد تلاشى مع إصابة الروابط بين الدولة والمواطن بالوهن، وفقد المجتمع الترابط وأصبح “سائلا”، وهو الأمر الذي جعل الفرد في حقبة ما بعد الحداثة يُترك بصورة متزايدة إلى أدواته الخاصة بدلاً ن اعتماده على الدولة.(ص25 ).
ومن ثم يمكن القول مع المؤلفين أن التحول عن الطابع الجماهيري هو في واقع الأمر عملية الوعي باستقلال الفرد، ولكنه أيضاً حالة من الانعزال والعزلة للمواطن العالمي، وحالة من فقدان الروابط الاجتماعية التي كانت تكفلها الجماهير المتضامنة في الدولة الراعية نوعاً ما(ص 25)، وأنه قد كتب علينا، اليوم، أن نكون أفراداً تُركنا إلى مواردنا الفردية وهي موارد غير كافية تماماً لحل للمشكلات الكبرى التي نواجهها، بل والمشكلات الأشد التي نظن أننا سنتعرض لها إذا لم نجد طريقة لاجتنابها، وأنه في أعماق كل الأزمات التي يزخر بها زمننا تكمن أزمة القوى الفاعلة وأدوات الفعل المؤثر، وما يصاحب ذلك من شعور مخزي ومهين ومستفز بأن المرء قد حكم عليه بأن يكون وحيداً في وجه أخطار مشتركة تتطلب التضامن. (ص107)
هل إلى خروج من سبيل؟
يتفق المؤلفان على أن الأزمة الحالية لأوروبا الغربية ليست مجرد أزمة اقتصادية بل هي أزمة عميقة من التحول الاجتماعي والاقتصادي وهي تضرب بجذورها في الماضي، وحتى نفهمها ونقبلها لا بد أن نرجع إلى أسبابها ونربطها بنهاية الحداثة والانتقال المؤلم عبر حقبة التكيف التي تعرف بأنها مرحلة ما بعد الحداثة (ص69)، وأن علينا اليوم أن نبحث عن طرق جديدة للسيطرة الاجتماعية فليس من الممكن الآن الاعتماد على الأيديولوجيا وأخلاقيات العمل (فقد انقضى عهدهما من منظور الرأي العام)، وحتى يمكن تحقيق السيطرة على مجريات حياتنا وتحقيق استقرارها فإنه من الضروري القيام بإعادة تأسيس المنظومة الاجتماعية، وإعادة صياغة الاختيارات والامتيازات المكتسبة في أثناء العقود الأخيرة للحداثة عندما اضطرت إلى التوافق مع المجتمع للحفاظ على سلطتها.(ص94)
كما يجب أن نبتكر حلولاً لأزمة الدولة المتمثلة في طلاق السلطة والسياسة، والتي ينجم عنها غياب القوة الفاعلة القادرة على فعل ما تتطلبه كل “أزمة”؛ أي اختيار الطريق وتطبيق العلاج الذي يستلزمه ذلك الاختيار، والبحث عن حل ممكن حتى تعود السلطة والسياسة معاً، والانتباه إلى أن هذه العودة في ظل العولمة لا يمكن تصورها تقريباً داخل دولة واحدة؛ مهما كانت كبيرة وقادرة، فنحن نحتاج إلى رفع السياسة وركائزها إلى ذروة جديدة غير مسبوقة تماماً(ص20)، فشرط عودة الدولة إلى القيام بوظيفتها المؤسسية الكاملة واستعادة قوتها في السياسات العملية، هو أن تكون دولة عولمية قادرة على التدخل على مستوى عال من السلطة(ص43)
وعلينا أيضاً أن نفكر في العوائق المنيعة لذلك كله، بل ومواجهة أكبر هذه العوائق المتمثلة في “متلازمة التمركز حل الاستهلاك”، التي تفترض وحدة كلية للعالم الذي نسكنه؛ بما في ذلك الأحياء والجمادات والحيوانات والبشر، باعتبار هذا العالم وعاء ضخماً لا يفيض إلا بمواد قابلة للاستهلاك؛ باعتبار رغبات المستهلكين وحدها فقط هي المهمة دون قيمهم ومعتقداتهم وثوابتهم (ص166-165)، وهو الأمر الذي لا يهدد السياسة وبقاء المجتمع فقط لكنه يهدد وجودنا المشترك والرضا والسعادة التي نستمدها منه عندما تصبح رؤية العالم تقوم على الاستهلاكية وفقط. (ص 170)
وقفة مع بعض أفكار الكتاب
1- إذا كان باومان يدرك أن الأزمة التي تواجه العالم الغربي ليست أزمة مؤقتة، بل هي علامة دالة على تغير عميق في المنظومتين الاقتصادية والاجتماعية بأسرهما، كما أن آثارها ستدوم أمداً طويلاً وستطال نتائجها كل مجالات الحياة؛ وفي القلب منها الثقافة، ألا يستدعي ذلك انتباه مثقفينا للأزمة الشاملة التي تمر بها أمتنا، وضرورة دارستها والتنبيه لمخاطرها على هوية الأمة ومستقبل أجيالها القادمة، ومستقبل مقدراتها في ظل هجمة عولمية وصهيونية لا مثيل لها على مجتمعاتنا وثوابتنا ومقدساتنا.
2- كما أن قضية المدن كمقلب نفايات لعالم من البشر المهاجرين هرباً من الموت والفقر والجوع والاضطهاد وما تفجره من تحديات لتلك المدن ودولها كمعامل محلية لاستكشاف حلول لهذه المشكلات، وغيرها من المشكلات الصادرة على مستوى عولمي أو لتخطيط الحلول واختبارها ودمجها في الممارسة اليومية أو رفضها، ودور المؤسسات البحثية والمدارس المتخصصة في المسؤولية المدنية، وفن التعايش البشري الصعب تحت هذه الظروف الجديدة، هي جميعها قضايا حيوية تمس اجتماعنا العربي وتحتاج لمعالجات صحيحة لها لم تبدأ بعد.
3- قضية وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي الجديدة، وما يقوم به غالب مستخدميها من عرض أنفسهم وعلى نفقتهم الخاصة جميع التفاصيل الخاصة بحركاتهم وأفعالهم التي قاموا بها أو ينوون القيام بها، وتداعياتها على الأمن الشخصي لهم واستخدام تلك المعلومات من قبل الدول وشركات الدعاية والإعلام من أجل خلق حاجات جديدة لهم وزيادة النزعة الاستهلاكية لديهم وتوجيه اختياراتهم وتعرية خصوصياتهم العربية، هي قضايا تحتاج إلى وقفة جادة في مجتمعاتنا حيث وصلت عملية التعرية لمراحل غير مسبوقة على كافة المستويات والطبقات الاجتماعية.
4- قضية الثورات والخروج للشوارع التي انتشرت في بداية العقد الثاني من هذا القرن وقدرتها على هز أسس أنظمة استبدادية أو سلطوية، وأيضاً فشلها في بناء بدائل راسخة تحقق أهدافها التي خرجت من أجلها، تعد أيضاً قضية كبيرة تستحق البحث والنقاش الجادين، وخصوصاً في ظل ما يمكن تسميته موجة الثورات الثانية في عالمنا العربي في الجزائر والسودان ولبنان وأخيراً العراق وتداعياتها المحتملة على الاجتماع العربي.
5- قضية سيادة فلسفة اللايقين وتصفية دولة الرفاه الاجتماعي، وهي القضية التي لا تؤثر في أوروبا وحدها، بل يصل تأثيرها إلى العالم بأسره بدرجات متفاوتة، والتي يقبع وراءها اعتقاد ليبرالي جديد بأن كل إنسان ينبغي أن يعول نفسه من دون أن يثقل كاهل غيره بحاجاته وعيوبه، هي قضية في غاية الأهمية ولم تنل ما تستحقه من اهتمام بحثي متعمق في مجتمعاتنا العربية في ظل ما نراه من أزمة شاملة للدولة وانسحابها المشين من المجال الاجتماعي بعد أن أغلقت المجال السياسي، وصارت-في كثير من حالاتها- شرطياً يعمل لصالح الاستعمار الجديد ورجال أعماله ودولته الوظيفية الصهيونية، وفي ظل غياب بدائل حقيقية للنخب الحاكمة أظهرتها جلية مآلات الثورات عندما وقعت في يد أصوليات جاهلة لا تدري شيئاً عن الدين أو الدنيا.
6- قضية الابتعاد عن السياسة وما تأتي به من عواقب خطيرة قد شهدها التاريخ المعاصر لأوروبا، فكيف بمجتمعاتنا العربية وما فعلته وتفعله بها كلا من معاداة السياسة والحزبية، فانتشار عملية معاداة السياسة أو الحزبية باعتبارها شيء قذر وعلى أنها شيء لا ينبغي التورط فيه، وعلى أنها شيء ينبغي تركه لمن يمارسونها باحترافية ويضحون بأنفسهم من أجل الآخرين وهو الطريق المباشر إلى السلطوية، هي قضية يجب أن تكون محل نقاش دائم في مجتمعاتنا العربية؛ وخصوصاً مع زيف غالب عمليات التمثيل الديموقراطية التاريخية والراهنة في عالمنا العربي.
خاتمة
هذا الكتاب الصغير الحجم غزيز الأفكار، يعد نموذجاً تطبيقياً دالا ًعلى كيفية تعامل المثقف مع دوره وقيامه بواجبه تجاه ثقافته ومجتمعه، يعد فرصة سانحة للمثقف العربي ليراجع أدواره ووظائفه وينقد واقعه ومحصلة تجربته خلال قرن كامل، وليس هذا وحسب ما يثيره الكتاب من أفكار وإن كانت تكفيه، لكنه يثير أيضاً أسئلة كثيرة أخرى تحتاج إجابات صحيحة عليها، ومن أهم تلك الأسئلة:
هل نقوم بواجبنا تجاه دارسة حالة الأزمة التي تمر بها أمتنا العربية وتشخيصها؟ وكيف تقوم الأنظمة الحاكمة ومعارضاتها باستغلال المؤسسات السياسية والتنفيذية والمجتمعية، إما لتخويف المواطنين من التغيير أو لفرض أعباء جديدة عليهم، وتجعلهم منشغلين بأنفسهم وبحياتهم اليومية من دون تفكير في كيفية الحفاظ على القيم الديمقراطية، أو الانقلاب على تلك السلطات بحجج واهية ودون بدائل قادرة على حفظ المجتمعات والدول من السقوط؟ وكيف بات العالم العربي يمثل مدرسة قائمة بذاتها في صناعة الاستبداد وتغييب بدائله؟ وهل درس علماء الاجتماع والسياسة والدين الأسئلة المؤرقة للأجيال العربية الجديدة التي تعيش في الفضاء السيبراني بدءاً من توجههم إلى المؤلفين المجهولين لموسوعة ويكيبيديا وإلى أصدقاء الفيس بوك ومدوني تويتر للإجابة عنها؟ وكيف يمكن لمجتمعاتنا العربية أن تواجه غزو كنيسة النمو الاقتصادي التي تفرض قبضتها على أجساد أبناء الأمة رغم المعارضة التي تبديها القلة المرابطة على ثغور الأمة تحذر من وسائلها التدميرية لاقتصاداتنا وسلوكياتنا الاستهلاكية؟ وكيف يمكن أن نواجه كنيسة التقدم النيوليبرالية المتحالفة مع الدولة في ظل معاداة السياسة والحزبية المنتشرة في مجتمعاتنا؟
خاصة في ظل ما يشهده العالم اليوم من تقلبات شديدة وسريعة التغير تهدد نمط الحياة الإنسانية والاجتماعية بكل أبعادها بسبب وباء كورونا المستجد (كوفيد 19) وتأثيراته الحادة على المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والقيمية والدينية، وما يترتب عن ذلك من تفاعلات تؤشر على حدوث تحولات جوهرية في النماذج المعرفية في كل مجالات الحياة، وفي موازين القوى والتكتلات في السياسة والعلاقات الدولية والإقليمية، وفي ظل أزمة حادة للرأسمالية الغربية وانكشاف غالب منظومات الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية والخدمات المرفقية الحيوية في دول العالم، وظهور عورات المنظومات الاقتصادية والاجتماعية النيوليبرالية ومفاهيمها ونظرياتها التي همشت الدولة الوطنية ومفهوم السيادة الوطنية والخدمات المجانية أو المدعومة في الصحة والتربية والتعليم في مجتمعات العالم أجمع؛ وفي مجتمعاتنا العربية على وجه الخصوص، ومع ذلك ما زالت معظم حكوماتنا تتبنى النموذج المتوحش لليبرالية ووصفات الصندوق والبنك الدوليين التي ثبت فشلها الذريع في كل اقتصاد طبقت فيه.
وأخيراً فإن هذا الكتاب يقول لنا أنه: من دون المفتاح لا يكون الصندوق خزانة بل يكون مجرد وعاء للحفظ، وهكذا الشعوب دون رواد لا يكذبون أهلهم لا تكون مجتمعات، وتظل مجرد تجمعات أفراد لا روابط بينها ولا إمكانية لتجددها وتقدمها، فهل آن للمثقفين العرب،؛المفاتيح، أن يقوموا بأدوارهم ووظائفهم حق القيام في معالجة حالة الأزمة التي نعيشها في زمن الكورونا؟
[1] الحداثة السائلة-الحياة السائلة-الحب السائل-الشر السائل-الثقافة السائلة-المراقبة السائلة-الأزمن السائلة-الخوف السائل.
[2] فكرة البستنة، يرمز بها باومان إلى عصر الحداثة، حيث يمكن تنظيم كل شيء والتحكم فيه.
[3] فكرة الصيد، ترمز إلى عالم الحداثة السائلة وما يعنيه من اللايقين والفردية وعدم الأمان.
التعليقات