قراءات في كتب

قراءة في كتاب: “فِقْهُ التَّدَيُّنِ فَهْمًا وَتَنْزِيلاً”

مقدمة

يتناول هذا الكتاب قضية من القضايا ذات الأهمية في حياة الإنسان المسلم في علاقته مع واقعه، تلك القضية هي فقه التدين، من حيث قواعد فهمه وتنزيله، سعيا لإبراز صلاحية الشريعة للزمان والمكان، كما هي خاصيتها التي تتسم بها عن غيرها من الشرائع الأخرى. فما هو مضمون الكتاب؟ وما هي أهدافه ورؤيته المنهجية ؟ وما هي أهم مزاياه؟ وما الملحوظات التي ظهرت من خلال قراءته؟

أولاً: محتوى الكتاب

يتضمن الكتاب الذي بين أيدينا مقدمة وتمهيدا وبابين وخاتمة.

في المقدمة [1] أشار المؤلف إلى بعض أسباب عدم قدرة الصحوة الإسلامية على تحقيق هدف جعل أحكام الإسلام واقعا عمليا يوجه حركة المجتمع الإسلامي في كل جوانبه، واعتبر أن تلك الأسباب منها ما كان موضوعيا خارجا عن إرادة الصحوة ومنها ما يرجع إلى طبيعة المنهج الذي تتبناه هذه الأخيرة وهو منهج التعميم والتجريد والتحسيس والتنبيه بشكل أكبر، وبعدها يقترح المؤلف مخرجا لما عليه حال الصحوة فيرى أن السبيل الأنسب لذلك المخرج هو الاعتماد على منهج جديد يجمع بين مرحلة فقه  الفهم ومرحلة فقه الإنجاز والتطبيق العملي لذلك الفهم .

التمهيد: [2]ومجمل ما جاء فيه حديث عن مفهوم الدين والتدين وبيان لخصائص كل منهما، بحيث اعتبر المؤلف الدين بما هو تعاليم إلهية فهو يتسم بالكمال والمثالية والتقعيد العام، فيما يرى أن التدين بما هو منهج لتنزيل تعاليم الدين في الواقع الإنساني، يتصف بالنسبية والمحدودية. كما أشار إلى جهود المسلمين في التقعيد لفقه التدين من خلال ما قدمه الشاطبي في الموافقات وابن عاشور في مقاصد الشريعة الإسلامية، وتوقف المؤلف عند عصور الانحطاط في مواصلة جهود السابقين في علم الفقه وأصوله وكيف كان لها الأثر الكبير في تخلف المسلمين وتراجع الاجتهاد، ولم يفت المؤلف الوقوف على جهود الصحوة الإسلامية والحركات الإسلامية في سبيل تجديد فقه التدين وما آل إليه أمر بعض الاتجاهات العاملة في هذا المجال في علاقتها بهذا الفقه حيث ترددت بين من وصل به الأمر إلى السطحية وآخرون إلى الإحباط في سياق  البحث في فقه التدين. ثم بين المؤلف فكرة أساسية هامة وهي أنه إذا كان الواقع الذي نعيشه اليوم متسما بالتعقيد فإن ذلك مدعاة إلى النفير من قبل أهل العلم والاختصاص في هذا الباب بغية تقديم إجابات تكون مرشدة للإنسان في ظل هذا الواقع المعقد. وأخيرا يجد المتتبع لمضامين الكتاب أن المؤلف يقترح محاور ثلاثة رئيسية يتأسس عليها فقه التدين، وهي: الفهم، والصياغة، والإنجاز، وقدم لكل محورا تعريفا خاصا به.

الباب الأول: في فقه الفهم، وفي مبتدئه تمهيد [3]أشار فيه المؤلف إلى مفهوم التدين وعرفه بأنه انفعال واقع الإنسان المسلم بتعاليم الدين الإسلامي. ولما كان الأمر كذلك حسب رأيه احتيج إلى فقه لتعاليم الدين من جهة وإلى فقه للواقع من جهة أخرى.

وفي الفصل الأول من الباب الأول والموسوم ب “مصدر الدين”  [4] تناول المؤلف ما يلي :

  • تقديم بين فيه أن مصدر الدين هو الوحي الذي ينحصر في القرآن الكريم والحديث النبوي. وتوقف عند أهم خصائص الوحي[5]، ويمكن إجمالها في أن الوحي يتميز بما يلي: إلهي المصدر كله، وعام للناس كافة، ومنحصر في نصوص جارية على لسان العرب بحسب أساليبهم في القول، وليس مناقضا للعقل، وهو وحدة متكاملة وليس وحدات مستقلة، وممحّض للحكم في أجناس الأفعال الإنسانية المجردة، وأخيرا من خصائصه النزول المنجم على زمن متطاول.
  • فصل القول في أساليب الوحي في الهدى[6]، وحصرها في ثلاثة، وهي: الهدي التفصيلي، والهدي الكلي، والهدي المقصدي.
  • ناقش موضوع قيمة التراث في فهم الدين، [7]بحيث عرف التراث، وبين ضرورته في فهم الدين، وطرح سؤالا هل التراث ملزم في فهم الدين؟ وحاول مناقشته وتحليله.

و الفصل الثاني والمعنون ب ” فهم الدين” تطرق المؤلف إلى:

تمهيد [8] وذكر فيه المؤَّلّْف مصادر فهم الدين، وجعلها محصورة في القرآن الكريم والسنة القولية، فيما يرى أن السنة الفعلية والاقرارية تساعدان على الفهم، ونبه إلى أهمية التمكن من قواعد اللغة العربية بما هي أداة لفهم سليم للقرآن والحديث النبوي.  وبعدها عرض الكاتب لمجموعة من القضايا المندرجة ضمن سياق فهم الدين، ومن ذلك:

  • الدين بين المراد الإلهي والفهم البشري [9]، تناول فيه تمييزا بين العنصرين السالفين.
  • الضوابط النصية في فهم الدين، [10]ومنها: الضابط اللغوي، والضابط التكاملي، والضابط الظرفي، فكلها ضوابط مراعاة في عملية الفهم للدين على أحسن وجه.
  • دور المعرفة العقلية في فهم الدين: [11]وفيه تعريف بالمدلول النصي، “المعرفة العقلية”، وعنصر آخر اصطلح عليه المؤلف بتقدير المصالح وجعلها طريقا مساعدا للمعرفة العقلية في استنباط الحلول لمشكلات الانسان الجزئية بناء على المقاصد الكلية للدين.
  • دور الواقع في فهم الدين: [12]أكد فيه المؤلف على أهمية تقدير الواقع في فهم الدين واتجاهات من تحدثوا في فقه الواقع وعلاقته بالدين بين من يرى القطيعة بين فهم الدين والواقع ومن ذهب إلى درجة إهدار تعاليم الدين تحت مسمى الواقع، مع ذكره موقفه الوسط بينهما والذي مداره على اعتماد الواقع في فهم الدين وإحداث الاحكام الجديدة وفق ضوابط الشرع ومقاصده التي تضمن وحدة الدين وثباته واستمراريته على السمت الصحيح.[13]

الفصل الثالث: فقه الواقع؛ [14]وفيه تأكيد من جديد على مكانة فهم واستيعاب الواقع في سبيل فقه سديد للتدين وتنزيل سليم لأحكام الدين في واقع الإنسان. وقد تناول فيه المؤلف جملة من العناصر نجملها كالآتي: ـ الواقع وآلات فهمه، [15]وفي هذا السياق يرى المؤلف أن من منطلقات فهم الواقع الانخراط العملي فيه ومعايشة أحداثه وتفاعلاته.[16]

ـالتجربة التاريخية في فهم الواقع: [17]ضمنه المؤلف حديثا عن عصر الصحابة الكرام والتابعين بعدهم وأئمة المذاهب الفقهية الأربعة أمثال الإمام مالك وأبي حنيفة وكذا أئمة العقيدة، وكيف كانوا يستحضرون فقه الواقع في حياتهم واجتهاداتهم العلمية مما أثرى التاريخ الإسلامي، لكن هذا التألق الذي عرفته تلك العصور تلاه صور من التقليد والانحطاط فيما بعد لأسباب منها نزعة التصوف بعد إجازتها من قبل الغزالي والتي نزعة بالإنسان منزع الخلاص الفردي والابتعاد عن الواقع وملابساته وتفاعلاته.

واقع الانحطاط والتراجع في العناية بفقه الواقع كانت معه استثناءات بصمت على مسار قوي في العمل على إبراز فقه الواقع واستثماره في المؤلفات، ومن ذلك ما تركه ابن حزم الظاهري والعز بن عبد السلام من ثمار علمية نتيجة التفاعل مع الواقع.

هذا وقد أشار المؤلف أيضا إلى جهود الصحوة الإسلامية ممثلة في جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وحسن البنا، في محاولة إحياء فقه الواقع واستحضاره في سبيل النهضة والتقدم، فقد جال هؤلاء بعض البلاد الإسلامية وكانت تلك الزيارة عاملا مساعدا في الانتاجات والاجتهادات التي تقدم بها هؤلاء المجددون. إلا أن هذه الجهود عرفت تعثرا بسبب ما عرض لتلك الدعوات من التنكيل والتعنيف جعل بعضها يعدل عن مساره الإصلاحي.

كما أكد في هذا الصدد على الحاجة الماسة إلى فقه الواقع ـ ذي الطبيعة المعقدةـ من قبل كل الفاعلين في المجال الإسلامي، من أجل استئناف تنزيل سليم للدين في الواقع.

العناصر الأساسية في الواقع الإسلامي الراهن: [18]وخلاصة أن قراءة واستيعاب الواقع الذي يراد تنزيل تعاليم الدين فيه، يتطلب معرفة عناصر أساسية تشكل مدخلا هاما لفهم الواقع بشكل أكبر وأعمق ومن ذلك: العامل الديني، والعامل التاريخي، وعامل الحضارة الغربية.

الباب: في فقه التنزيل. [19]

في تمهيد [20]هذا الباب أعاد المؤلف التأكيد على أهمية مرحلة الفهم للدين في فقه التدين وتسييره وفق تعاليم الدين، وبين أهمية جانب فقه التنزيل، وأهم ما يميزه عن مرحلة الفهم كونه ينضاف إليه عنصر جديد هو الواقع إلى جانب العقل والعلاقة مع المصدر الإلهي، ثم تحدث عن المرحلة الأساسية لفقه التنزيل والمتمثلة في فقه الصياغة للعقيدة والشريعة معا، وفقه الإنجاز لتلك الصياغة في الواقع.

الفصل الأول: في فقه صياغة العقيدة.[21]: في هذا الفصل تجد المؤلف يميز بين العقيدة والشريعة ويقدم تعريفا خاص بكل منهما، ويذكر منهج فقه صياغة العقيدة والذي يقوم في نظره على وجهين هما: تقديم العقيدة بشكل تكون معها أكثر إقناعا للناس بها، وعرضها بطريقة تمكن من تملكها بين الناس وجعلها مصدرا ينطلقون منه في السلوك والممارسة العملية في حياتهم، ثم تناول تجربة الفكر الإسلامي في صياغة العقيدة، [22]حيث ذكر المراحل التي مر بها الفكر الإسلامي في تناوله لهذا الموضوع بين نضج ونجاح وبين عقم وضعف، وفي حديثه عن فقه الصياغة في مرحلة النضج [23]أجملها في عنوان كبير وهو كونها جعلت من الواقع أساسا لهذه الصياغة، وفي معرض بيان هذه الواقعية  تطرق المؤلف إلى  علاقة المسلمين والفكر الإسلامي مع العقيدة بدءا بمرحلة الجيل الأول وكيفية تعامله مع هذا المبحث، وما جرى من التطور منذ نشأة العقيدة علما متميزا سمي بعلم الكلام أو علم التوحيد، وجملة ما قدمه في هذا السياق الـتأكيد على واقعية الفكر الكلامي بحيث كان ينمو ويتطور بالمعالجة المستجدة لما يطرأ من مشكلات واقعية بتنظير عقدي، ولم يكن متولدا من فكر فلسفي مجرد.[24]

وإذا كان الفكر العقدي واقعيا في نشأته وتطوره، فإن هذه الواقعية، ظلت صفة ملازمة له في الموضوع [25]والمنهج[26]كما بين ذلك المؤلف بالأمثلة التوضيحية. لكنه وبعد القرن الخامس الهجري؛ حيث عرف الفكر العقدي انحدارا وانحسارا، وصار أبعد عن الواقعية في معالجة قضايا العقيدة فصار التكرار والاجترار السمة المميزة لهذا الفكر الكلامي.[27]

ونحو فقه جديد في صياغة العقيدة: [28]ومجمل ما جاء في هذا العنوان تطرق المؤلف إلى أهم المشاكل العقدية الراهنة في الواقع الإسلامي فجعلها اثنتان رئيستان هما: مشكلة الانفصال بين المرجعية العقدية وبين المظاهر التطبيقية في مختلف وجوه الحياة، ومشكلة الغزو الايديولوجي الغربي وأثره في تعطيل دور العقيدة الإسلامية في حياة المسلمين. ثم تناول الكاتب الأسس الفقهية للفكر العقدي الحديث، حيث اقترح ـ في سبيل نهضة هذا الفكرـ أمرين اثنين هما واقعية الموضوع التي تقتضي اشتغال الفكر العقدي الحديث على قضايا واقع العصر وتحدياته، وواقعية المنهج التي تتطلب تنويع وتجديد أساليب الدفاع عن العقيدة وطريقة عرضها الغاية في ذلك كله الاقناع بالحق لا مجرد الاقناع فقط.

أما في الفصل الثاني: في فقه صياغة الشريعة[29]، فقد تضمن ما يلي:

ـ تمهيدا [30]  وعناوين فرعية. ففي التمهيد ألمع المؤلف إلى تعريف العقيدة والشريعة تعريفا بصيغة جديدة، وحدد في هذا الصدد أهم المبادئ المرشدة لصياغة فقه الشريعة، وهي: الواقعية، والتكامل، وتحري المقاصد.

وعرض في العنوان الفرعي الأول الذي وسمه بـ” صياغة الشريعة وتطبيقاتها في التراث” [31]وفي هذا الصدد عرف المؤلف بما يقصده من معنى فقه صياغة الشريعة كما توقف عند تطبيقاتها في التراث من خلال مباحث علم أصول الفقه وعلم الفقه ومن ذلك مبحث النوازل الفقهية حيث عدها المؤلف أهم وجه من أوجه صياغة وتنزيل الشريعة على الواقع.

ثم انتقل إلى العنوان الفرعي الثاني:” مبدأ الواقعية في صياغة الشريعة”.    [32]وفي هذا المضمار يؤكد المؤلف من جديد على أهمية استحضار الواقع في عملية صياغة الشريعة، ويرى أن هذه الواقعية تقوم على أمرين هما فقه الواقع من جهة وفقه الأحكام المراد صياغتها صياغة واقعية. ثم فصل بشكل موسع في مجموع الإجراءات التي تهم كل من فقه الواقع والأحكام.

وفي العنوان الفرعي الثالث:” مبدأ التكامل” [33]فصل المؤلف في المقصود بالتكامل في صياغة فقه التدين الصحيح، وعدد بعض قواعد هذا التكامل، وهي إجمالا: أولا: فهم التشابك في الصورة الواقعية بين عناصرها المختلفة النفسية والثقافية والاقتصادية والسياسية. ثانيا: صياغة الاحكام السلوكية في إطار المبادئ العقدية. ثالثا: اعتبار مآلات الاحكام.

أما في العنوان الفرعي الرابع والأخير ” مبدأ اعتبار المقاصد”[34]، وفيه يشير إلى ما كان معلوما في الدين من أن لكل حكم من الأحكام الشرعية مقصدا خاصا به ينبغي مراعاته في صياغة الشريعة، ويلزم معه أمر ثان وهو ضرورة “اعتبار المقاصد في الأحكام على مشخّصات الأحداث”[35].

وفي الفصل الثالث من الباب والموسوم ب” فقه الإنجاز” [36]توقف المؤلف في تمهيد لهذا الباب إجمالا عند بيان أهمية فقه الإنجاز إلى جانب فقه الفهم والصياغة كما تقدم بيانه فيما سبق من صفحات الكتاب، كما اعتبر فقه النوازل أكبر تجل من تجليات حضور فقه الإنجاز في التراث الفقهي والأصولي عند المسلمين زمن ثراء هذا الفقه النوازلي، ثم فصل الكاتب في شروط الإنجاز حيث جعلها اثنتين كبيرتين هما : الوعي والاقتناع وكذا التأطر الاجتماعي مفصلا في معنى كل شرط على حدة، ومعتبر أنه لا نجاح لفقه الإنجاز دون هذين الشرطين. وبعد ذلك تطرق المؤلف إلى آداب الإنجاز حاصرا إياها فيما يلي: المرحلية والتدرج، والتأجيل والاستثناء، وجماعية الإنجاز. فكلها آداب لازمة المراعاة في سبيل إنجاز تعاليم الدين بعد حسن الفهم والصياغة لها.

وأخيرا، وعند خاتمة الكتاب أعاد الكاتب ذكر ما تضمنه الكتاب من قضايا كبرى وما ارتبط بها من تفاصيل جزئية مساعدة على حسن فهم مقصود الكتاب، ولم تفته الفرصة لخط توصية للباحثين والمهتمين بهذا المجال إلى مزيد من البحث في موضوع فقه التدين وإثرائه بواسع اجتهاداتهم المفيدة لا شك في ذلك.

ثانياً: هدف الكتاب ومنهجه

هدف الكتاب:

 يستطيع القارئ للكتاب القول بأن الكاتب يروم من خلال هذا المؤلف، وكما عبر عن ذلك بنفسه، بيان المنهجية التي يكون بها التدين، أي تحمل الدين بالفهم أولا، ثم بالتطبيق ثانيا.[37]

ـمنهج الكتاب:

الكتاب الذي بين أيدينا، ينبني على مجموعة من المناهج البحثية الدقيقة، ومن المناهج التي يلاحظ اعتمادها في الكتاب، ما يلي:

المنهج التوثيقي[38]: ويظهر من خلال جمع الكاتب مادة الكتاب من كتب أخرى وعمل على إعادة تركيبها تركيبا متناسقا، بما ينسجم ويحقق أهداف المؤلف من تأليفه الكتاب، ومما يدل على ذلك ـ في تقديري ـ أمور منها ما يشير إليه الكتاب من معارف فقهية وأصولية وعقدية موظفة في مباحث هذا الكتاب.

ـالمنهج التحليلي[39] الوصفي[40]: الناظر في متن الكتاب يكاد يجزم بأن التحليل والتفكيك هو المنهج الغالب على المؤلف، ويظهر ذلك بشكل أوضح من خلال حضور الكاتب بشكل قوي في  الكتاب فهو حينما يورد نصا أو مقولة من مصدر من المصادر يحرص على تحليلها ومناقشتها وتفكيك عناصرها ، أضف إلى ذلك ما يجريه الكاتب من النقد الذي يراه ضروريا من حين لآخر. كل ذلك في تناغم مع المنهج الوصفي الذي يقوم على عرض مواد علمية مستقاة من مصادر ومراجع أخرى جعل منها المؤلف موردا من موارد المعرفة التي ضمنها الكتاب.

ثالثاً: مزايا الكتاب

1ـ بالنظر إلى متن الكتاب وإحالاته وبعض المصادر والمراجع نجد الحضور القوي لعلوم شرعية منها علم الفقه وأصوله، إذ يجد القارئ للكتاب حرصا من المؤلف على استثمار مصطلحات أصولية مثل اعتبار المقاصد، والمآل، والاستحسان، وغيرها مما يدور في فلك علم أصول الفقه، ولست هنا بصدد تقرير أهمية هذه العلوم في سياق البحث، ولكن يمكن القول بأن المؤلف وهو يعتمد تلك المعارف المستنبطة من العلوم الشرعية المذكورة وكأن لسان حاله يقول ألا فقه للتدين سليما لمن لم يجعل من العلوم الشرعية منطلقا له في سبيل تحصيل ذلك الفقه. وهذا أمر بالغ الأهمية في سياق موضوع الكتاب، فلا سبيل لفهم علم الأصل فيه أنه من وحي الشريعة دونما إعمال لقواعد العلوم الخادمة للشريعة من قبيل علم أصول الفقه مثلا. وإلا كان البحث في فقه التدين على غير هدى من الله، في حال استبعاده تلك القواعد المسددة للفهم والتطبيق لتعاليم الدين في الواقع.

2ـ إذا كانت بعض الكتابات يغلب عليها طابع الجمع من هنا وهنا دون بذل جهد من قبل الكاتب في تحليل ومناقشة ما جَمَعَ، فإن الكتاب الذي بين أيدينا مع استفادته من مختلف المصادر والمراجع إلا أن حضور شخصية المؤلف كان فيه قويا من خلال ما يجده القارئ من تحليل ومناقشة تظهر بوضوح لغة أصيلة للمؤلف فيما كتب في ثنايا الكتاب.

3ـ البعد التكاملي: إذا كان التكامل بمختلف معانيه التي منها التكامل المعرفي بين العلوم فإن الكتاب حافل بصور التكامل، ومن ذلك ” مبدأ التكامل” الذي عده المؤلف واحد المبادئ اللازمة في سياق فقه الصياغة في الشريعة، وكذا ما يوظفه الكاتب من معارف العلوم الأخرى في معرض بيان حقيقة من الحقائق الشرعية، مثل استعماله علوم المهندس المعماري وعلوم الصيدلة مثلا، فذلك من الأدلة الواضحة على وجود البعد التكاملي في الكتاب.

4ـ البعد التجديدي في الكتابة، بحيث أن المؤلف وهو يتناول موضوع فقه التدين لم يقف عند الحديث عن مرحلة الفهم باعتبارها مرحلة مهمة لصياغة هذا الفقه، بل تعدى ذلك إلى مراحل أخرى اعتبرها أكثر أهمية في عصرنا الراهن، ومن تلك المراحل مرحلتا فقه الصياغة وفقه الإنجاز. والعنوان شاهد دال على هذا المعنى (فهما وتنزيلا). ومنه يستنتج أن المؤلف قد حاول تجاوز مشكلات التقليد والتكرار والاجترار التي تعاني منها العلوم الإسلامية كما قرر بعض الباحثين.

5ـ  يلاحظ استعمال المؤلف لفظ الفقه في عنوان الكتاب ” فقه التدين” ولا شك أن هذا اللفظ يجد أصوله في القرآن الكريم في آيات كثيرة منها قوله تعالى: “وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍۢ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ” ( التوبة،122) وفي علم الفقه وأصوله، ومنه يقال إن المؤلف نجح في ربط فقه التدين بمرجعية الإسلام بوجه من الأوجه، فلم يقارب موضوعا هو من صميم الدين الإسلامي بمرجعية ليست مرجعتيه، فقد قارب الموضوع في ضوء مرجعيته الطبيعية الأصلية.

6ـ لغة الكتاب سليمة وسلسة، تنهل من معجم مصطلحات العلوم الشرعية وخاصة منها علم العقيدة(الكلام) وعلم أصول الفقه.

7 ـ المتتبع للكتاب يجده حافلا بالأمثلة التوضيحية البيانية لبعض ما جاء فيه من الحقائق والمبادئ، ومن ذلك ما قدمه المؤلف في عنصر ” مبدأ التكامل” [41]

خاتمة

ختاما، لقد بذل المؤلف جهداً في تبين وبيان جوانب فقه التدين فهما وتنزيلا، من خلال ما قرره من مراحل أساسية في سبيل التأسيس لهذا الفقه، هذه المرحل أجملها في مرحلة الفهم، ومرحلة الصياغة عقيدة وشريعة، ثم مرحلة أخيرة سماها مرحلة الإنجاز أو التطبيق العملي لتعاليم الدين في الواقع، ولا شك أن ما قدمه لم يكن منتهى القول في هذا الباب كما صرح المؤلف نفسه في خاتمة الكتاب، والحال هذه فإن مسؤولية الباحثين والدارسين المهتمين بهذا الموضوع تتأكد وتزداد إلحاحا في ظل واقع يتسم بالتعقيد والتغير وعدم الثبات مما يبرر مواصلة البحث في هذا الموضوع.


 [1] ـ فِقْهُ التَّدَيُّنِ فَهْمًا وَتَنْزِيلاً، عبد المجيد النجار، ص 5 وما بعدها.

[2] ـ نفسه، ص 9 وما بعدها.

[3] ـ نفسه، ص 25ـ27.

[4] ـ نفسه، ص 29.

[5] ـ نفسه، ص 30 وما بعدها.

[6] ـ نفسه، ص 35 وما بعدها.

[7] ـ نفسه، ص 36 وما بعدها.

[8] ـ نفسه، ص 59 ـ 61.

[9] ـ نفسه، ص 61 وما بعدها.

[10] ـ نفسه، ص 68 وما بعدها.

[11] ـ نفسه، ص 76 وما بعدها.

[12] ـ نفسه، ص 86 وما بعدها.

[13] ـ نفسه، ص 93.

[14] ـ نفسه، 95 وما بعدها.

[15] ـ نفسه، ص 98 وما بعدها.

[16] ـ نفسه، ص 100.

[17] ـ نفسه، ص 102وما بعدها.

[18] ـ نفسه، ص 110 وما بعدها.

[19] ـ نفسه، ص 125 وما بعدها.

[20] ـ نفسه، ص 131 وما بعدها.

[21] ـ نفسه، ص 131 وما بعدها.

[22] ـ نفسه، ص 134 وما بعدها.

[23] ـ نفسه، ص 136.

[24] ـ نفسه، ص 142.

[25] ـ نفسه، ص 142 وما بعدها.

[26] ـ نفسه، ص 145 وما بعدها.

[27] ـ نفسه، ص 148ـ 149.

[28] ـ نفسه، ص 151 وما بعدها.

[29] ـ نفسه، ص 169.

[30] ـ نفسه، ص 169 وما بعدها.

[31]  ـ نفسه، ص 172 وما بعدها.

[32] ـ نفسه، ص 180 وما بعدها.

[33] ـ نفسه، ص 191 وما بعدها.

[34] ـ نفسه، ص 201 وما بعدها.

[35] ـ نفسه، ص 202.

[36] ـ نفسه، ص 207 وما بعدها.

[37] ـ نفسه، أنظر ” هذا الكتاب” الواجهة الخلفية من الكتاب، حيث عبر الكاتب عن مضمون الكتاب، وأشار إلى الهدف منه بوجه من الأوجه.

[38] ـ أبجديات البحث في العلوم الشرعية (محاولة في التأصيل المنهجي) ضوابط ـ مناهج ـ تقنيات ـ آفاق، أ.د. فريد الأنصاري رحمه الله، دار الكلمة المنصورة مصر، الطبعة الأولى 1423ه /2002م، ص 75 وما بعدها

[39] ـ نفسه، ص 97 وما بعدها.

[40] ـ نفسه، ص 66 وما بعدها.

[41] ـ نفسه، أنظر على سبيل المثال، ص 194ـ 195.

التعليقات

اظهر المزيد

ذ. لمهى عبد الحق

باحث في الدراسات الإسلامية، يعمل حاليا أستاذا للتعليم الثانوي التأهيلي بالأكاديمية الجهوية بني ملال خنيفرة، حصل على شهادة الماستر تكوين الحوار الديني والحضاري وقضايا التجديد في الثقافة الإسلامية، له مقالات ودراسات منشورة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *